
قبلة على رأس راقص البطريق
سليمان المعمري
لا أظن أنني تعاطفتُ مع بكاء لاعب في مونديال، بعد مارادونا في عام 1990م، وميسي في عام 2014م، كما تعاطفتُ مع بكاء أشرف حكيمي عقب خسارة فريقه مع فرنسا في مونديال قطر. ولَكَم أحببتُ كيليان مبابي – اللاعب الفرنسي الشهير- الذي وقف مع صديقه مواسِيًا مدة طويلة بعد المباراة وبادله قميصه، ثم خاطبه عبر صفحاته الشخصية في وسائل التواصل الاجتماعي: “لا تحزن يا أخي، الجميع فخور بما فعلتَه. أنتَ صنعتَ التاريخ يا أشرف”.
والحق أن كلمات مبابي اللطيفة لم تكن مجرد مجاملة، وهو الذي سبق أن وصف صديقه وزميله في نادي باريس سان جيرمان الفرنسي بأنه أفضل ظهير أيمن في العالم. إنها عين الحقيقة، فقد صنع حكيمي مع منتخب بلاده التاريخ بالفعل. وإذا كان لكل كتاب عنوانٌ يختصر مضمونه فسأقول إن حكيمي هو هذا العنوان، وإذ أحييه بهذه الكتابة فإنما أحيي من خلاله “أسود الأطلس” على أدائهم البطولي في مونديال قطر. وأشرف يستحق أن يكون أُمثولة ليس فقط لأنه لاعب كبير داخل الملعب، ولكن لأنه أيضًا إنسان كبير خارجه.
كان حكيمي مصابًا عندما نال جائزة أفضل لاعب في مباراة المغرب وكندا في المونديال، وهو ما حدا بمدربه وليد الركراكي – في تصريحاته بعد المباراة – أن يطلب من كل مغربي تقبيل رأسه، كاشفًا أن إصابته لم تبدأ في مباراة كندا (المباراة الثالثة للمغرب في دور المجموعات) وإنما منذ المباراة الأولى ضد كرواتيا، واستمرت في المباراة التالية ضد بلجيكا، ومع ذلك تحامل على نفسه في سبيل بلاده. يضيف الركراكي: “دخلتُ معه في حوار حتى الدقيقة الأخيرة [من مباراة كندا] إذا كان بإمكانه اللعب. قال لي: من أجل البلاد سأستمر في القتال واللعب”. واستمر بالفعل، وساهم في إقصاء بلده الثاني الذي يحمل جنسيته (إسبانيا) في الدور الثاني، ثم البرتغال في الدور ربع النهائي تاركًا زميله السابق رونالدو فريسة للحزن والبكاء، ليصعد المغرب إلى نصف النهائي كأول فريق عربي وأفريقي يصل إلى هذا الدور.
عندما أدى حكيمي رقصة البطريق عقب نجاحه في تسجيل الركلة الترجيحية الأخيرة ضد إسبانيا بطريقة بانينكا الصعبة، قيل حينئذ إنه يُرسل رسالة دعم لصديقه وزميله السابق في ريال مدريد اللاعب الإسباني سيرجيو راموس؛ الذي سبق أن رقص معه هذه الرقصة، والذي يعتبره أشرف أفضل مدافع في العالم، ولم يكن راضيًا عن استبعاده من تمثيل إسبانيا في المونديال. لكن يمكننا اعتبارها أيضًا رقصة النجاح لحكيمي على الصعيد الشخصي، فركلته تلك عدا أنها ستعبُر بالمغرب إلى دور الثمانية، ومنه إلى الدور قبل النهائي، تذكرنا أن هذا اللاعب الذي بالكاد تجاوز الرابعة والعشرين من عمره، حقق في هذا السن الصغير الكثير من النجاحات، كان آخرها اختياره من قبل شبكة “آر إم سي سبورت (RMC sport) ضمن التشكيلة المثالية لدور مجموعات كأس العالم في قطر 2022م.
وفي حين لا نعرف في العادة شيئًا عن الحيوات الخاصة لنجوم الكرة إلا حين يتعلق الأمر بالفضائح الشخصية، كخيانة نجم برشلونة بيكيه للمطربة شاكيرا على سبيل المثال، أو الأمور الشخصية كرفض والدة البرتغالي كريستيانو رونالدو زواجه من صديقته (وأم أولاده) جورجينا، فإن الحياة الشخصية لحكيمي عادة ما تظهر لوسائل الإعلام في أبهى صورة، وعنوانها “بِرّ الوالدين”، فكم شاهدنا أشرف في المونديال وهو يحضن أمه ويقبّلها في المدرجات، وسبق له أن صرّح أنه يحرص على الاتصال بها بعد كل مباراة ليطمئنها على النتيجة ويطلب منها الدعاء له بالفوز، وعندما فاز بجائزة “أفضل لاعب شاب في أفريقيا” (وهي الجائزة التي نالها سنتين متتاليتين 2018، و2019م) ظهر مع والدته على شاشة إحدى الفضائيات المصرية ممتدحًا إياها، ومشيدًا بتضحياتها من أجله، ومؤكدًا حرصه على اصطحابها إلى أماكن لعبه وتكريمه. وقد صرح عام 2018م قائلًا عن والديه: “أنا أقاتل كل يوم من أجلهما، لقد ضحيا بنفسيهما من أجلي، وحرما إخوتي من أشياء كثيرة، لكي أنجح”.
وفي الحقيقة فإن أمًّا كسعيدة موح، وأبًا كحسّان حكيمي، يستحقان كل تقدير، فقد حرصا، رغم شظف العيش الذي عانياه في إسبانيا، وفقر الحال بعيدًا عن وطنهما الأم، حرصا على توفير كل الدعم المعنوي الكبير، والمادي (رغم ضآلته)، لابنهما الموهوب لكي يمضي وراء شغفه بكرة القدم، مُضحِّيَيْن في سبيل ذلك بالغالي والنفيس كما يقال. عمل الأب بائعًا جوالًا، وكان يقطع مسافة مئة كيلومتر يوميًا من أجل أخذ طفله البالغ ثمان سنوات إلى أكاديمية لافابريكا التابعة لفريق ريال مدريد وإعادته، في مشوار يستمر من الرابعة عصرا وحتى العاشرة مساءً كل يوم. أما الأم فقد اضطرت للعمل عاملة نظافة في البيوت الإسبانية للمساعدة في توفير لوازم الطفل الموهوب، إلى أن تحقق الحُلم وصار ابنهما لاعبًا أساسيًّا في أحد أهم أندية العالم (ريال مدريد) وهو لم يبلغ العشرين بعد، ليفوز معه بدوري أبطال أوروبا، وتبدأ بعدها رحلة النجاح، فيتنقّل اللاعب الموهوب بين أهم أندية العالم؛ بروسيا دوتموند الألماني، وإنتر ميلان الإيطالي، قبل أن يحط الرحال في نادي باريس سان جيرمان الفرنسي زميلًا لميسي ونيمار، وصديقًا حميمًا لإمبابي، كما سبقت الإشارة.
كان يُمكن للاعِب وُلِد في إسبانيا ونشأ فيها، ويحمل جنسيتَها، أن يختار ببساطة اللعب في منتخب إسبانيا العريق، بطل كأس العالم عام 2010م، والمرشح الأبرز لكل المونديالات بعدها، لكنه لم يتنكّر لجذوره، واختار الدفاع عن ألوان المنتخب المغربي، يقول عن ذلك: “”لقد ولدت وترعرعت في إسبانيا، لكنني لم أنسَ أبدًا من أين أتيت”، مضيفًا أنه تشرّب الثقافة المغربية وتعاليم الإسلام من والديه، وأنه اختار تمثيل المغرب استجابة لنداء القلب.
إن لاعبًا كهذا يحق لمدربه أن يطلب من المغاربة تقبيل رأسه، لكن ليسمح لي الركراكي أنْ أوسّع الضيّق لأطلب من العرب والأفارقة أيضًا تقبيله، ليس فقط لأنه لاعبٌ فذّ لعِبًا وأخلاقًا، بل أيضًا لأنه رمز للمغرب؛ المنتخب الذي شرفنا، والبلد الذي نحبّ.