قمة العشرين واتجاهات المرحلة

يقظان التقي

حرير- تنعقد قمة العشرين في جزيرة بالي في إندونيسيا في ظل أوضاع دولية متغايرة، وعالم عاصف بالمشكلات، على خلفية الحرب الروسية على أوكرانيا، وتتشتت الظاهرة البارزة التي طبعت العلاقات الدولية المعاصرة، من هيمنة نظام عالمي يؤدّي إلى التأثير على التطورات الأقتصادية والقانونية والسياسية والاجتماعية. تتسم القمة بالتعبيرعن مجموعة من الهموم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأمنية والاستراتيجية، فالنظام العالمي الحالي استند إلى قواعد القانون الدولي التي تجد جذورها في المبدأ الليبرالي “دعه يعمل، دعه يمرّ”، وهو اليوم يتسم بالقيود والعقوبات التي تتحدّى قواعد انطلقت أساساً لتأمين اقتصاد العالم المفتوح. أدّى اختلال القطبية الثنائية إلى اختلال الكل، بعد دمج القضايا العالمية كافة، فتحوّلت عن شكلها القديم، بحيث صارت غير قابلة للهضم. والسؤال هو إن كان الغرب ما زال لديه الفن لاستغلال الحقيقة، ويملك الوسائل لملء الثغرات، وتعرّجات عمل نظام الحياة الدولية، وعدم تأمين نهاية الليبرالية.

ما أنقذ القضية الليبرالية في القرن العشرين، إلى جانب القوة الأميركية، مراوغة جهة مشتركة ضدها، والانقسام الصيني – السوفييتي الذي ساعد الغرب في الانتصار في الحرب الباردة. أهدرت الموارد الكثيرة على الفكرة الخاطئة في الحرب الباردة (الشيوعية المتجانسة)، يجب ألّا تهدر اليوم على “الأوتوقراطية”، وأن يضمن الغرب حدود الشيء نفسه في القرن الواحد والعشرين، فالرئيس ترومان في العام 1945 (أقوى الرؤساء الأميركيين) ظهر غير قادر على تطهير ألمانيا وكلّ نظامها القديم. تبرُز اليوم أمام الرئيس بايدن إشكالية تتعلق بكثرة (وتنوع) الأسباب التي تدخل على اللعبة، وتوجب طرائق ممتازة في العلاقات الدولية، للخروج من بؤس النظام الدولي.

لأول مرة، يرى العالم نفسه محروماً من نظام حقيقي، فيهدّد التقارب بين روسيا والصين العالم الليبرالي، ما يعتبره الغرب حرب الديمقراطيات مقابل الأنظمة الاستبدادية، حيث نظام دولي سمته المميّزة عدم الاستقرار، والتوتر المتنامي بين دينامية القوة وتفاقم الضغط والركود الاقتصادي. وكما يؤكّد بادي وساموث أنّ “النظام الدولي أصبح الأقل استقراراً بين مجمل الأنظمة السياسية”. يضع الخطر الوحدة الأوروبية على المحكّ. في المقابل، لا يكفي أن تنظر الولايات المتحدة وحدها إلى الأمور. في كلّ مرّة تستخدم سياسات ولادة للانقسامات والتناقضات في زمن العولمة. أغرب شيء في الحلم الأميركي أنه مزيج يتعامل مع قوى التفتيت والعولمة في آن. بين قوى الانطواء على الهوية القومية وقوى الانفتاح الدولي، بين المديونية ورفض الاعتراف بها، بين تمسّكها بفكرة الدفاع عن القيم الليبرالية وضربها بالطريقة نفسها، ما يوحي بأنّ الاستبداد يتكرّر في عدم احترام توازن القوى الجديدة، ومعه يتزايد التشكيك بقيادتها على الصعيد الدولي.

ليست الأمور على مقياس ما يمكن توقعه من حربٍ على عولمة محقّقة في السبعينيات، تخسر الكثير من فعاليتها. لذلك تأتي القمة، على نحو غير جامع (أعلن الرئيس الروسي عدم مشاركته في القمة)، لتبيّن ما إذا كانت الأمور ستذهب في الاتجاه الصحيح، إلى المنعطف الذي ستأخذه اللقاءات، أو الشجارات المتصاعدة. يتخوف بعضهم من أن يكون العالم بعد أوكرانيا على عتبة قرن “ما بعد ديمقراطي”، وتتعزّز تربية أنظمة مارقة، فالأنظمة الاستبدادية ليست أقلّ عرضة للشجار أيضاً. وقد تضاعفت تكاليف سباق التسلح مجدّداً، نموذج اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية التي ما كانت تستشعر الحاجة إلى الدعم الاقتصادي وحماية القوة المسلحة.

لكن، مع تعثر أدوات الضبط العالمي، و”أفول الوظيفة القانونية الدولية” التي كانت تستبق الأمور والأحداث، تبرز أنساق جديدة تربط بين الاقتصادي والسياسي والعسكري، من نوع دعوة السعودية إلى الانضمام إلى مجموعة البريكس (670 مليار دولار حجم تبادلات الصين). ثم إن أسلوب فرض العقوبات يتعارض مع المضامين المعاصرة للأمن الدولي. هذا فيما تتزايد مشكلات التحدّي البيئي وأخطار اكثر انتشارا وضررا في مجالات الطاقة والأمن الغذائي. ثم تأتي مسائل من نوع تعديل القواعد النقدية العالمية، ما يجسّد رهانا جغرافيا سياسيا آخر. سيشكل تصاعد قوة الصين واندماجها من عدمه في مباحثات القمة سمتين كبيرتين/ مترابطتين.

إما اندماج وتشبُث بالاقتصاد العالمي وتقليص خلافات في الموازنة مع وجهات النظر الأميركية أو الاتجاه المعاكس لتوجهات الدول الغربية، أي التجزئة. يسعى المعاندون إلى إعادة ترتيب سلم القوى الدولي، والعودة إلى مبدأ التوازن، أي موازاة القوة الأميركية المهيمنة عبر التحالفات العابرة، أو الثابتة، أو الظرفية، فيما روسيا ونفوذها على المحك. لن يحيد بوتين عن الاستراتيجية الجديدة التي أطلقها الكرملين العام 2000، وكرّرها في مؤتمر ميونخ الأخير عام 2021، وهي تعزيز التعبئة الاقتصادية، إذ لا يمكن إهمال البعد النفسي في ظروف الحرب التي تشنها روسيا، وأفقدتها البراغماتية الجيوسياسية، وما تعتبره من شروط إنعاش دورها القطبي على المستوى السياسي الدولي، ورفض فكرة القوة المتوسطة.

لن يستطيع الرئيس الروسي بوتين الخروج من الإغراء الإمبراطوري الغامض الذي ما زال يخدم شرعيته القومية. وترسل التصريحات الروسية إشارات متناقضة، لن تتراجع في ما يخصّ العملة العالمية الجديدة، ودور الروبل المحتمل، ووثيقة أمن الطاقة عبر أوروبا والطاقة النووية. قد تجازف روسيا بحصول حادث نووي في محطة زاباروجيا. ليست القضية أوكرانيا، بقدر ما هي قضية إعادة هيكلة النظام الدولي.

تحاول الصين وروسيا إعادة كتابة قواعد الطريق من أجل مصالحهما. أوروبا تعاني. فشلت في رسم مجال أوروبي أكثر تمايزاً، يتآلف وتفاهمات متعددة بعد مجال شينغن، وانضمام دول أعضاء، وتوسيع منطقة اليورو في أوروبا الوسطى، قبل أن تضطرّها الحرب الأوكرانية وأزمة الطاقة إلى الحدّ من طموحاتها، وكانت تراهن على المجال الجغرافي في أوكرانيا الذي تدمّره روسيا بوحشية في استيهامات ما وصلت إليه في القرن السابع عشر. لن تقبل الإدارة الأميركية النقاشات من نوع إعادة أوروبا تنظيم عالم غربي تنظيماً ليبرالياً إرادياً، فإذا صحّ كلام بسمارك أنّ “الدولة تصنع سياسة جغرافيتها” فأوروبا تتكبّد خسائر كبيرة (أكثر من ثلث التجارة العالمية)، فيما يحاول الصيني والروسي إظهار الأمور المشتركة مع شعوب آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا كنماذج مؤسساتية للثقة والتعاون. الأميركي مستمرُّ في إظهار عظمته العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، مروّجا التنويع التكنولوجي في نقل مصانع الرقائق التايوانية إلى الداخل الأميركي مع نظام أبحاث عالي المستوى في هذا الشأن، فيفهم الصيني المسألة بعدم رغبتة الدخول في مواجهةٍ معه في تايوان. لا يبدو أنّ أحداً قادر على التراجع. كأن الصراع لم يبدأ بعد، ولا سيما في غياب فاعلية التدخل الأممي، المنحصر في تأمين خطوط نقل الحبوب والأسمدة عبر البحر الأسود.

قد يبدو أنّ لقاءات القمة أشبه بمراسم اجتماعية. قد يتطلب الأمر العودة إلى جاذبية دبلوماسية “النادي”، امتدادا إلى المحفل الأوروبي في القرن التاسع عشر الى مؤتمر يالطا 1945. الشرعية الدولية هي في عدم الإضرار بأمن العالم. فرض أي دول وصايتها على العالم لن يكون سوى تصوّر خاطئ، فالعالم في حاجة إلى الدينامية الجديدة وآلية الاندماج… تطمح إندونيسيا أن تكون جسر سلام… وهو سلام يتمنّى العالم حدوثه بقوة.

مقالات ذات صلة