ربيحات: الكثیرون ممن بشروا بالتنمیة تركوا المكان كما یتركه الجراد وخلفوا الخوف والقلق والخذلان

بقلم: د. صبري ربيحات

في الجنوب یعرف الناس الجراد جیدا فقد غزاهم مرارا قبل أن تنشأ العدید من المنظمات التي تعنى بالأغذیة والزراعة وقبل صناعة طائرات الرش وإیجاد مراكز الرصد والمراقبة. في حالات كثیرة لم یخش الناس الجراد فالأرض قاحلة والناس جیاع وفي قدومه فرصة للحصول على غذاء طیب یسهل جمعه وإعداده، فالوجبة لا تحتاج أكثر من قطع رأس الجراد وإلقاء جموعه في النار كما تلقى سبلات القمح وتناولها دون المرور إلى مراسم الطهو والشواء التي نقوم بها الیوم.

الألفة الكبیرة بین الجنوبیین والجراد انعكست على أسماء الأبناء الذكور فقد انتشر اسم جراد بین موالید نهایات القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرین في كل من الشوبك ومعان والطفیلة وقرى النعیمات ووادي موسى وبین عشائر الحویطات والحجایا وبقیة أبناء البادیة الجنوبیة.

في كل من الطفیلة ومزار الكرك توجد عائلات كبیرة ومحترمة تحمل أسماء جرادات والجرادین، ما یشیر إلى قصة أو قصص وذكریات للسكان والناس مع الجراد والى تكرار تواجده في المنطقة بالتزامن مع ولادة من أطلق علیهم الاسم أو لتأثر الجماعة بحدث اجتیاح أسرابه لبیئتهم.

لا أذكر التاریخ ولا السنة التي دخلت فیها الطفیلة في مواجهة مع الجراد، لكنها بالتأكید في مطلع الستینیات فقد كنا أطفالا عندما اجتاحتنا الأسراب التي غطت سماء القریة، وخرجنا لملاقاتها ونحن نضرب العصي بالصحون والطناجر ونوقد النیران حول المزروعات ونحرق ومناطق الطفیلة بعدما قیل لنا إن المكافحة أبادت طلائع الأسراب الغازیة یوم السبت وأجهزت على ثلاثین ملیون منها.

حتى اللحظة لا نعرف الكثیر عن أسالیب المقاومة الجدیدة وحجم القوة المعدة لذلك ومدى تدریبها وتجهیزها واستعدادها. لكننا نعرف جیدا أن الجنوب هذا العام ممحل مثل الاعوام السابقة والربیع انتهى فیه قبل أن یبدأ والناس لا یقوون على الوقوف في وجه المشاكل والأزمات التي تتناوب علیهم واحدة تلو الأخرى.

في الطفیلة بطالة وغضب وهتافات وضجیج وفیها حدیث عن التنمیة الموعودة التي تطیر مع دوران توربیدات تولید الكهرباء من ریاحها. المدهش أن الناس أحسوا بوجود الجراد أكثر من إحساسهم بكل المشاریع التي تولدت في فضاء الطفیلة ولم تعد مستعدة لتشغیل الآلاف الذین استبشروا خیرا بها.

التعلیقات التي حملتها وسائل التواصل الاجتماعي متعددة ومثیرة لكن غالبیتها تربط بین طبائع الجراد وأخلاق وقیم الكثیرین ممن بشروا بالتنمیة ودعوا للاصلاح وقادوا مشروعات الخصخصة وتعاملوا مع موارد البلاد، فقد تركوا المكان كما یتركه الجراد وخلفوا لدى الأهل الكثیر من الخوف والقلق والخذلان.

أعرف تماما أن الجراد سیذهب كما ذهبت جموعه التي غزت هذا البلد الطیب. وأعرف أننا سنتصالح مع وجوده طالما هو مقیم. وأعرف أننا طیبون حتى وإن تنفخت حناجرنا ونحن نردد ”ونشرب إن وردنا الماء صفوا.. ویشرب غیرنا كدرا وطینا“. فنحن لا نعني دائما ما نقول.

الآلاف من الحشرات التي أدهشنا طیرانها وهي تحمل بعضها البعض. فكثیرا ما صادفنا جرادة على ظهر أخرى دون أن ندرك فیما إذا كن في حالة تزاوج أو ینفذن أحد برامج التكافل التي سمعنا عنها لاحقا. المهم أن المشاهد ما تزال حیة في ذاكرتي وقد استعدتها بالأمس وأنا استمع إلى استغاثة بعض أهلنا وهم ینبهوننا إلى دخول أسراب من الجراد إلى بلدة العیص وضانا. الغد

مقالات ذات صلة