ليست مشكلة شرطة أخلاق فقط

سوسن جميل حسن

حرير- هل يمكن الركون إلى قرار المدّعي العام الإيراني، حجة الإسلام محمد جعفر منتظري، إلغاء شرطة الأخلاق، واعتباره أداءً مرنًا وحكيمًا من النظام؟ يخمّن كثيرون أنها مناورة من السلطة الحاكمة، فنظام أمني بامتياز لن يُقبل على إصلاحاتٍ تحقق جزءًا من مطالب المحتجين، لأنه لو فعل ذلك لخسر التيار الديني المحافظ السلطة في إيران، في حين أن السلطة الأقوى هي للمرشد الأعلى الذي تعود إليه تبعية الجيش والسلطة القضائية والحرس الثوري والإعلام وغيرها عديد من مفاصل الدولة، ولو كانت السلطة تحترم حقّ التظاهر ما كان ما يدنو من أربعمئة متظاهر قد لاقوا حتفهم نتيجة العنف المفرط خلال شهرين من التظاهر، وما كان الآلاف قد واجهوا الاعتقال، لأنهم خرجوا مطالبين بالحرية ورفع القبضة الأمنية عن البلاد.

ليست المشكلة في الحجاب فقط، بل هي أبعد من ذلك، إنها التوق إلى الحرية أهم شرط إنساني، فعندما يُسلب من الإنسان أهم ما يميزه، وهو حقٌّ فطري وليس مكتسبًا، فإن إحساسه بذاته الفاعلة يضطرب، وتضطرب معه قدرته على الفعل والإبداع، حتى في ما يتعلق بحياته الشخصية. وقضية الحجاب التي كانت الشرارة التي أجّجت غضب الإيرانيين، بسبب التمادي غير المسبوق في استخدام قوة السلطة وعنفها واستباحة حياة الأفراد وكرامتهم، بمقتل الشابة مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق، ليست السبب الوحيد، على الرغم من استخدام السلطات الدين أداة من أدوات القوة المفرطة، والاستناد إليه وإلى اجتهادات بعض رجالاته لزرع مفاهيم تضبط المجال العام، وكل رفض أو احتجاج على ممارسة السلطة يُقابل بالعنف بحجّة أن هناك من يريد العبث بأمن البلاد واستقرارها، مثلما صرح الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، في يوليو/ تموز الماضي، عندما دعا إلى تعبئة كل المؤسّسات لتعزيز قانون الحجاب، متهمًا أعداء إيران وأعداء الإسلام باستهداف القيم الثقافية والدينية للمجتمع و”إشاعة الفاحشة”، فإن هناك العديد مما يجعل الإيرانيين ينتفضون، فهذه ليست المرّة الأولى التي تنطلق فيها المظاهرات في إيران، فقد اندلعت احتجاجات واسعة في العام 2009 اعتراضًا على هزيمة المرشّح الإصلاحي، حسين موسوي، في مواجهه المرشّح المحافظ محمود أحمدي نجاد، وسُميت تلك المظاهرات الغاضبة الثورة الخضراء، وسقط فيها عشرات القتلى، وتركّزت المظاهرات التي خرجت سابقا في عامي 2017 و2018، في العاصمة طهران وما حولها، على خلفية تشكيك بنتيجة الانتخابات، والمطالبة بمعرفة مصير أصواتهم التي أدلوا بها في الانتخابات، مثلما صرّحت وكالات ومنابر إعلامية عديدة، كذلك في 2019 بسبب زيادة سعر الوقود بنسبة 200% مرة واحدة. وفي كل مرة تفرض السلطات مراقبة شديدة وحجبًا لمعظم المواقع، وتمنع تطبيقات وشبكات للتواصل عديدة، لكن المتظاهرين دائمًا يجدون سبلًا للتواصل في ما بينهم من أجل الاجتماع على الرفض والمطالبة بحقوقهم والدفاع عن أهدافهم، خصوصا لما يتعلق بالحريات، ورفع القبضة الأمنية التي يدير بها النظام البلاد.

لم تبقَ شعوب خارج العصر في وقتنا الراهن، فالثورة الرقمية وسهولة وسرعة التواصل وانفتاح العالم على بعضه بعضا، جعل الشعوب تعرف أن هناك حياة أخرى في مناطق أخرى من العالم، وأن الحصار الذي تفرضه الأنظمة عليها يحرمها من حقوقها في الحياة المرتجاة. هذا ما نراه في بقاع عديدة، حتى في الصين، المثال القوي على الأنظمة الشمولية، غير الدينية، انتفض الصينيون ضدّ إجراءات كوفيد التي تفرضها السلطات تحت شعار صفر كوفيد. وفي روسيا، خرجت مظاهرات رافضة للحرب التي تخوضها حكومة بلادهم في أوكرانيا. وفي بلداننا العربية ثارت الشعوب في دول عديدة ضد أنظمتها القمعية… إنها الحرية التي تسبق كل الشعارات، وتتفرع عنها كل المطالب، بينما الشمّاعة الوحيدة التي تعلّق عليها هذه الأنظمة كل الأسباب والدوافع خلف احتجاجات شعوبها هي المؤامرة الكونية، ومحاولات القوى الخارجية زعزعة أمن واستقرار هذه الدول والشعوب، مثلما لو أن شعوبها تنعم بحياة كريمة مصونة الحقوق، وأنها تحقق لها عيشًا مرفّهًا، بينما في الواقع هي تفتقر لمقومات العيش، ولا تستخدم في مواجهة الاحتجاجات غير البطش والقوة والعنف والترهيب، وتفرض مزيدًا من القيود والإجراءات التعسفية.

لماذا تعشق المؤامرة هذه الدول التي تنعدم فيها المواطنة، أو تُقنّن؟ لو كانت تلك الأنظمة الشمولية القمعية تحترم مفهوم المواطنة، وتحقّق لمواطنيها العيش الكريم وتصون حرياتهم، وتفسح لهم المجال ليكونوا أصحاب القرار في ما يتعلق بشؤون بلادهم وقراراتها الداخلية والخارجية، وأن يكون هناك سياسة قائمة على تداول السلطة بما يقرر الشعب عن طريق انتخابات نزيهة، يقوم الشعب من خلالها بانتخاب من يمثله، هل كان للمؤامرة أن ترى طريقها بسهولة إلى تلك الدول؟ لو كان القانون ضامنًا للحقوق والحريات، بما تدّعي معظم دساتير تلك الدول أيضًا، وكان مصانًا أيضًا وليس مطيّة تستخدمه السلطة بحسب أهوائها وأجندتها، هل كانت الشعوب ستنتفض، إن كان سلميًّا، أو بالسلاح، لمواجهة العنف الممارس ضدها، وتدفع أرواحًا من أجل تحقيق أهدافها وحقوقها المشروعة؟

دولة المواطنة، في مفهومها الحديث، هي دولة المؤسسات وتحقيق العدالة الاجتماعية، فهل توجد مؤسسات حقيقية في أنظمة شمولية قمعية، تستخدم القوة في الدرجة الأولى والأساسية في إدارة البلاد و”ضبط” المجال العام؟ وهل العدالة الاجتماعية حاضرة ومحقّقة، بينما شرائح واسعة من الشعب لا تجرؤ على التعبير عن نفسها وممارسة حياتها بالشكل الذي تنشده؟ صحيح هناك قسم من الشعب الإيراني مع الدولة الدينية وفرض الحجاب وتأطير المرأة في القالب النمطي المشغول وفق ثقافة الدين والعرف والتقاليد وغيرها مما تسعى الأنظمة إلى تكريسه، لكن لا مجال لنكران أن في حال تحقيق العدالة الاجتماعية وإتاحة الفرص أمام الجميع بالتساوي ومن دون تمييز، وتحقيق الديمقراطية السياسية والاجتماعية، الضامنة حقوق الجميع واستقرار الدول، لن تخرج المظاهرات من أجل الحرية وما يتفرّع عنها، وإنما ستخرج من اجل تصويب أداء الحكومات فيما لو أخطأت أو خيّبت أمل من وضعوا ثقتهم بها، لكن هذه المظاهرات الاحتجاجية في إيران وغيرها من الشعوب المقموعة، ليست نتيجة تدخل قوى خارجية لزعزعة الاستقرار، فما يوحي بانه استقرار، في تلك البلدان وتحت هذه الأنظمة، ليس أكثر من استنقاع تعاني منه المجتمعات، وهذا يشكل ركيزة تسعى هذه الأنظمة إلى حمايتها ودعمها.

إنها ليست مشكلة شرطة أخلاق فقط، تتحقق بإلغائها بقرار من المدّعي العام، مطالب الشعب المنتفض، وتزدهر حياة الشعوب ودولها، بل الأمر يحتاج إلى تفتيت بنية الأنظمة من هذا النوع، التي تتشابه في بلدان عديدة.

مقالات ذات صلة