سليم الزعنون وخلاف الحركية مع السلفية

أحمد جميل عزم

حرير- رحل عن الحياة، يوم 14 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، القائد الفلسطيني سليم الزعنون المولود عام 1933. وإذا كان عرف أكثر بصفته رئيسًا للمجلس الوطني الفلسطيني، وقياديًّا في حركة فتح عاش في الكويت، فإنّ صفحة أخرى تستحق التوقف، هي دوره في التحوّل السياسي في قطاع غزة، وجماعة الإخوان المسلمين، هناك، بداية الخمسينيات، وبالتالي دوره في تحولات الحركة الوطنية الفلسطينية، كونه ممن دافعوا مبكرًا عن تنظيم سياسي وطني غير حزبي.

يمكن القول إنّ أبو الأديب في مرحلة ما كان من رموز “الحركيّة” السياسية، وهذا يقود إلى شخصية أخرى مهمة، لم يكتب عنها كثيرًا في التاريخ الفلسطيني، شكلت النقيض، هي حسن عبد الحميد، بصفته قائد التيار الذي رفض ترك “الإخوان المسلمين”، ودافع عن “السلفية” الدينية. وهذا لا يلغي أن الذين قادوا تأسيس التنظيم الحركي هم بالدرجة الأولى آخرون، أبرزهم خليل الوزير، وياسر عرفات، وكمال عدوان، وعبد الفتاح حمود، وآخرون. بكلمات أخرى، لعب الزعنون دورًا في الفكرة الحركية المبكرة، والتحق مبكّرًا بقيادة التنظيم الحركي.

درس الزعنون الحقوق ثم الاقتصاد السياسي في جامعة القاهرة، وكان السكرتير العام لرابطة الطلاب الفلسطينيين بين عامي 1954 و1955، قبل أن يصبح وكيل نيابة في غزة مطلع عام 1956. عُيّن نائبًا لرئيس المجلس الوطني الفلسطيني عام 1969، ومعتمدًا لحركة فتح في دول الخليج العربي حتى 1990، ورئيسًا للمجلس الوطني منذ 1994 وحتى مطلع عام 2022، ونائب رئيس الاتحاد البرلماني العربي في 2009.

أحد الألغاز في تاريخ حركة فتح ما يُسمى كتيبة الحق، وقد كُتب عنها الكثير، بصفتها مجموعة تأسيسية أسّسها خليل الوزير وكمال عدوان، في مطلع الخمسينيات، للقيام بالكفاح المسلح. وفي بحثٍ أجريته، أشكك في تفاصيل هذه القضية، وأذكر هنا شقًّا من أبعاد هذه الكتيبة، وعلاقتها بالتحولات أو الانشقاقات عن “الإخوان المسلمين” في قطاع غزة مطلع الخمسينيات، لصالح الفكر الوطني.

يذكر عبد الله أبو عزة، وهو أحد قيادات جماعة الإخوان المسلمين في غزة والعالم العربي في السابق، في كتابه “مع الحركة الإسلامية في الدول العربية” (1986) أنّ كتيبة الحق كانت تتبع تيارًا في الإخوان المسلمين يقوده سليم الزعنون، مقابل تيار آخر يقوده حسن عبد الحميد. قادتني هذه المعلومة لمراجعة مذكرات الزعنون المنشورة، ووجدت أنه أغفلها بالكامل، أرسلت رسالة خطية (إلكترونية) إليه عبر أحد مساعديه، عن الموضوع، فردّ في مارس/ آذار 2020، برسالة بخط اليد، والحبر الأزرق، ذكر فيها أنّ الكتيبة مثّلت مجموعة متمرّدة من عشرة أشخاص لم يستطع هو ضبطهم، وكتب: “كتيبة الحق مجموعة من المتمرّدين، عددهم حوالي عشرة داخل الإخوان في قطاع غزة، وكانوا جزءاً من أسرة الفداء، ولما لم يستطع أبو الأديب السيطرة عليهم، تولّى أمرهم الشهيد صلاح خلف (أبو إياد)، وفعلًا استطاع ضبطهم. وفعلًا، انضمّوا جميعًا إلى حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)”.

بحثتُ عن حسن عبد الحميد صالح، الذي كان، كما يقول أبو عزة “يبدو أكثر ولاءً للكيان الإداري الرسمي القائم (للجماعة)، مع رفضه الطرَف المقابل، من الشباب الذي يريد القيام بعمل سياسي، مقاوم، باعتبار تكتّله خارجًا عن النظام. ويتضح من مذكرات الزعنون وأوراق شخصية للشهيد كمال عدوان، ومن البحث في قواعد بيانات للجامعات البريطانية، أنّ حسن عبد الحميد عمل لاحقًا أستاذًا للأدب في جامعة سعودية بالرياض، وأنّه كان يمثّل الاتجاه الأصولي في “الإخوان المسلمين”، والأقرب لقيادة الجماعة الرسمية. وما يعزّز هذا الاستنتاج أنّ أطروحته للدكتوراة كانت في الفكر السلفي عن شخصية مصرية من الإسكندرية، ونُشرت الأطروحة لاحقًا بعد وفاته، عنوانها “الحافظ أبو طاهر السلفي”، وتوفي صالح في حادث سير في السعودية عام 1976، بعد أن كان قد حصل على الدكتوراة من جامعة كامبريدج عام 1972.

يذكر الزعنون في مذكّراته أنّ أغلبية الطلاب الذين أتوا من قطاع غزة للدراسة في القاهرة، مطلع الخمسينيات، كانوا من “الإخوان المسلمين”، ورفضت فئة منهم المشاركة في انتخابات رابطة الطلاب الفلسطينيين، انطلاقًا من نظرة “ترى أنّ الأهم هو الانكباب على دراسة القرآن والأحاديث والعمل للدعوة الإسلامية”، وكان “زعيمهم المرحوم حسن عبد الحميد” الذي قال لسليم الزعنون: “أنت وصلاح (خلف) وياسر تبحثون عن كراسي”. احتكم عبد الحميد والزعنون إلى قيادة الإخوان المسلمين، فاختار المرشد العام للإخوان حينها حسن الهضيبي (1891 – 1973) شخصين للتحكيم، صالح أبو رقيق وكمال السنانيري، اللذين حكما لصالح وجهة نظر المشاركة في الانتخابات.

في رسالة كتبها كمال عبد الحميد إلى حسن عبد الحميد، في يوليو/ تموز 1956، يستغرب قول الأخير إنّ رابطة الطلاب الفلسطينيين “ليست ميدانًا للعمل”، واعتبار النشاط فيها “ضربًا من عبث، ومجرد لا شيء”. كان موقف عبد الحميد، ومعه آخرون، منهم طالب الطب النفسي (أو علم النفس) صلاح سكيك، هو ضرورة انتظار أسلمة المجتمع قبل أي نشاط سياسي، وهي فكرة إخوانيّة تبنتها شرائح كبيرة في العمل الفلسطيني، ولم تتوقف فعلًا إلا مع نشأة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) رسميًّا، عام 1988.

عدا عن دوره في رابطة طلبة فلسطين، التي أسّس قادتها لاحقًا، حركة فتح، أسهم سليم الزعنون بدور إشرافي أو قيادي في تنظيم المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، لقطاع غزة 1956/1957، ويقول إنّ أعضاءً من “الإخوان المسلمين” وبعثيين وقوميين عربًا جاءوا يناقشون معه بدء المقاومة، وإنّهم اتفقوا على تشكيل مقاومة غير حزبية، ووضعوا نظامًا لذلك. وانطلقت المقاومة في أكتوبر/ تشرين الأول 1956، واستمرّت حتى مارس/ آذار 1957. وتعتبر هذه المقاومة إحدى أهم خطوات تشكيل حركة فتح وإرهاصاتها، باعتبارها حركة جامعة غير مؤدلجة، تجمع الإسلامي واليساري والقومي. ويقول إنّه قال إنّ الحزبية لا تصلح في مرحلة ما قبل التحرّر وإقامة الدولة، ولا بد من نبذها.

فشلت محاولات إنشاء إطار موحد في قطاع غزة للتنظيمات السياسية. ويوضح الزعنون أنّ اجتماعاً حضره في بيت رئيس بلدية غزة، منير الريّس، فشل في التوصل إلى اتفاق بسبب اعتراض بعضهم على موقف الحزب الشيوعي في غزة الذي كان لا يرفض التعاون مع الشيوعيين الإسرائيليين. وفي نهاية فترة الاحتلال الإسرائيلي قطاع غزة في 1957، عقد اجتماع في القاهرة، حضره نحو عشرين شخصًا، منهم سعيد المسحال، وعبد الفتاح حمود، وياسر عرفات، وزهير العلمي، وإبراهيم النجّار، وسليم الزعنون، ووفا الصايغ ورجا الصايغ (وهما من حزب البعث) وآخرون. وكان فشل العمل الحزبي أحد مواضيع النقاش، وفي اللقاء شرح الزعنون تجربة “المقاومة غير الحزبية”، فاقترح المجتمعون تأسيس حركة جديدة وأوكلوا (كما يقول سعيد المسحال) للزعنون كتابة نصّ يلخص المشروع، واتفقوا على عقد اجتماع آخر لاحقًا لقراءة النص وإطلاق الحركة على أساسه، لكنّ هذا الاجتماع لم يحدُث بسبب تخرّج عدد من المشاركين وسفرهم.

لاحقًا، انطلق الشباب الأصغر سنًّا من سليم يؤسسون حركة فتح. وبعد أن أوشك اكتمال البناء، دعوه ليكون من القيادة والتأسيس، وهو يقول في رثاء خليل الوزير “كنتَ أصغرنا وكنت إمامنا”. في الواقع، لم يكن سليم يكبر باقي مؤسّسي “فتح” بأكثر من عامين إلى ثلاثة أعوام، (كان يكبر خليل الوزير بعامين)، لكنه سبقهم في التعليم والعمل، لأنّ غالبية المؤسّسين كانوا من اللاجئين الذين أخرتهم ظروف النكبة عن الدراسة قليلًا، فيما استمر وهو ابن غزة من دون انقطاع، ولعلّ أحد أسباب دعوتهم له وحرصهم على وجوده معهم تعود إلى انتباهه المبكر وقيادته فكرة التنظيم “الحركي”، وقدراته متحدثًا وشاعرًا.

وكانت للزعنون مواقف سياسية لاحقًا، منها رفضه موقف ياسر عرفات من غزو العراق الكويت، ورفض القرب من صدّام حسين، لكن دوره في البدايات يبدو مهمًّا، لناحية إلقاء الضوء على تطور الفكر السياسي الفلسطيني.

مقالات ذات صلة