العبوا معنا.. رمزي الغزوي

تمنيت لو أني شاركت الأطفال الغاضبين، في واحدة من مدننا، قبل أكثر من عامين، عندما قطعوا الشارع العام؛ احتجاجا على عدم توفر ملاعب وحدائق وساحات عامة. ولو شاركت حينها؛ لصرخت بملء قلبي: انقذونا من غابات الإسمنت، إنها تخنقنا في شققنا الكبريتية.

وقبل أيام قليلة تمنيت لو أني في مدينة هامبورغ الألمانية، لكنت انضممت إلى الأطفال الذين انطلقوا بمظاهرة بريئة احتجاجاً على أهاليهم؛ لأنهم ينظروا فقط إلى هواتفهم النقالة. وكنت سأصرخ عنهم بكل روحي: احضنونا احضنونا، نحن أولى، نحن أولى.
لن أكرر ما قاله واحد من علماء النفس، بأن الطفل يحتاج إلى 24 (ضمة حضن) يومياً؛ كي ينموا سليما سويا طبيعيا. ولكني سأكرر صرختي في هامبورغ مرارا ومرارا؛ فأطفالها يمثلون أطفال العالم المصاب بلوثة الهواتف النقالة ومرضها.
فهذه الأدوات الصغيرة صارت في هذه الأيام وجهنا الثاني، ويدنا الثالثة، ودنيانا الأوسع. الكل منا يزرع روحه وتركيزه ومشاعره بهاتف يده، وينسى وقائع عالمه، الأجواء الافتراضية تغرقنا وتسحق حياتنا. نعم، نحن نبني تواصلا افتراضياً، ولكننا نهدم حياة واقعة لا نحياها كما ينبغي.
لم يعد يرعبني أن أرى سائقا يتحدث بهاتفه، بل ما يصيبنا بالهلع أن كثيراً من السواقين يتصفحون المواقع الاجتماعي، ويمسجون (يكتبون رسائل واتساب)، وهم يسوقون بنصف عين وعقل، أو أقل بكثير. ولو أن دائرة السير حررت مخالفة غيابية، ضد كل سائقي بلدنا (عن جنب وطرف)؛ بسبب استخدام الهاتف؛ لما ظلمت إلا قليلاً منا.
وهذه فرصة مواتية لأحيي أصدقائي الأربعة. فنحن نلتقي في الشهر مرتين أو ثلاثة مرات، نلتئم بلقاء منزوع الهواتف والتدخين. فنحن نطفئها بكل برود على العتبة، ونحيا تواصلاً نظيفا وجاهياً، يرينا أنه ما زال مدهشاً وجميلاً علمنا الواقعي.
سيقول قائل، لو أن مظاهرة هامبورغ كانت في عمان، لما وجدت طفلاً ينضم إليها، فجل  أطفالنا يذوبون في هواتفهم وتاباتهم، حتى أن الأمهات لم يعدن يستخدمن (اللهايات) في إسكات أو تهدئة أطفالهن، بل ما على الأم، إلا أن تلقم هاتفها لطفلها، وتنعم بالصمت والسكون.
عما قليل سنتدفع ضريبة هذا الإفراط والتفريط، سندفعها على شكل مرض توحد يضربنا كبارا وصغارا، وشيئا فشيئا سيكون الافتراض هو الواقع، بينما الواقع سيغدو افتراضا لا يعاش ولا يحيا. عدا عن ضربات الإحباط، والتذمر، والقرف، والجنون.
إني قبل أن أسلم عليكم أصرخ مع الطفل الجميل (إميل)، ذي السبع سنوات، قائد مظاهرة هامبورغ: ارجوكم العبوا معنا، وليس بهواتفكم.

مقالات ذات صلة