الشافعي بين الدراما والتاريخ

حسين عبد العزيز

حرير- التاريخ فنٌ يُبحث فيه عن وقائع الزمان من حيث التعيين والتوقيف، بل عمّا كان في العالم، كما قال شمس الدين السخاوي في كتابه “الإعلان بالتوبيخ لمن ذمّ التاريخ”. والتاريخ بعبارات ابن خلدون هو “خبرٌ عن الاجتماع الإنسانيِ الذي هو عُمران العالم، وما يَعرِض لذلك العمران من الأحوال، مثل التوحش والتآنس، والعصبيات، وأصناف التقلبات للبشر”. غير أن الكتابة للتاريخ تأخذ منحىً مختلفا تماما في العمل الدرامي التلفزيوني والسينمائي، هنا لا مكان للتفاصيل المبعثرة ولا للتعقيدات، فالمطلوب تقديم التاريخ ضمن قالب قصصي بسيط، من شأنه أن يُحدث تشويقا لدى المتلقّي، مع ما يتطلبه ذلك من حذف وإضافات وتخيلات لخدمة القالب القصصي هذا أولا، ولخدمة الرسالة المراد إيصالها من العمل الدرامي إلى الجمهور ثانيا.

هذا التمايز بين الدراما والتاريخ هو الذي دفع الجهة المنتجة لمسلسل “رسالة الإمام” (إخراج الليث حجّو وبطولة خالد النبوي وإنتاج شركة المتّحدة لمحمد سعدي وإيهاب جوهر)، للقول إن الأحداث التي وُصفت بالأخطاء التاريخية، إنما هي إضافاتٌ تطلبها العمل الدرامي. ومع أن هذا الكلام صحيح من حيث المبدأ، إلا أن أي تغيير أو إضافات يجب أن تكون مشروطةً بالحدث التاريخي. ومن دون هذا الشرط يتحوّل العمل إلى نوع من الفانتازيا التاريخية، أو نوع من القصص الدرامية الخالية من الحقيقة التاريخية.

ينحصر النقد الموجّه لهذا العمل على مستويين: الأول متعلق بالأخطاء التاريخية، والثاني متعلق بالمهارة الفنية للعمل، وهما نقدان متعلقان بإهدار قيمة الإتقان المهني الواجب توفرها في مثل هذه الأعمال.

على صعيد الأخطاء التاريخية التي وجّهت للعمل، تبرز أولا مسألة علاقة الشافعي بمحنة خلق القرآن عند المعتزلة.

مما لا شك فيه أن محمد بن إدريس الشافعي (150هـ ـ 204 هـ/ 767- 820م) عاصر المعتزلة التي أخذت وزنا كبيرا في الساحة الثقافية منذ نهاية القرن الأول هجري ومطلع القرن الثاني هجري، وأن الشافعي ناقش، بشكل جزئي، مسألة خلق القرآن مع بشر المريسي (يقال إنه من الجهمية) وثمامة بن الأشرس، أحد كبار المعتزلة آنذاك والمقرّب جدا من المأمون. وحدث ذلك ضمن النقاشات الفكرية السائدة في عصر الشافعي وقبله، أي ضمن بيئة ثقافية متعدّدة ومتنوّعة تحت العباءة الإسلامية، قبل أن تقع محنة خلق القرآن عام 218 هـ، حين قرّر الخليفة المأمون تبنّي الفكر الاعتزالي مذهبا رسميا للخلافة، ومحاربة كل من يُخالف هذا المذهب.

ذكر المسلسل أن لقاءً جرى بين الشافعي والمأمون عام 198 هـ، وهي حادثة من وحي الخيال لم تحدُث أبدا، لأن المأمون كان في خراسان حين توفي والده الخليفة هارون الرشيد عام 194 هـ، وبقي فيها بسبب الخلاف مع أخيه الأمين الذي خلعه من ولاية العهد عام 195 هـ، إلى أن دخل المأمون بغداد بجيوشه عام 204 هـ، وهو العام الذي توفي فيه الشافعي، وكان موجودا في مصر حين وصلها عام 199 هـ.

لنسجل هنا أمرين: الأول أن الشافعي لم يعاصر محنة خلق القرآن أساسا، الثاني، أنه لم يلتق الخليفة المأمون (التقى الشافعي بهارون الرشيد والد المأمون عام 184 هـ).

تتعلق المسألة الثانية باستخدام اللغة العامية المصرية التي لم يبدأ استخدامها إلا بعد دخول الأتراك والأعاجم إلى مصر في القرن الثالث هجري، وقد كانت اللغة العربية هي المستخدمة في مصر بعد فتحها إلى جانب اللغة القبطية التي قويت على حساب اللغة اليونانية التي كانت معتمدة قبل الفتح الإسلامي، ولم تندثر سريعا بعد الفتح. وقد ترتب على هذا الخطأ التاريخي خطأ آخر متعلقٌ باستخدام مفردات لغوية في المسلسل تنتمي تاريخيا إلى حقب لاحقة، كان من المستحيل استخدامها آنذاك.

تتعلق المسألة الثالثة بمذهب الشافعي، كالصلاة، فقد أظهر المسلسل أن الشافعي صلى صلاة الفجر من دون السنة، مستشهدا بحديث للنبي يقول فيه “رَكْعتا الفجْرِ خيْرٌ مِنَ الدُّنيا وما فيها”، في إشارة إلى صلاة الفجر، في حين أن الحديث، حسب إجماع الفقهاء، يشير إلى صلاة السنة لا الفجر التي هي فريضة. ومنها أيضا عدم جهر الشافعي في المسلسل للبسملة في سورة الفاتحة، بخلاف المذهب الشافعي الذي يوجب البسملة.

ومنها أيضا، عرض المسلسل زيارة للشافعي إلى دير قبطي لمعالجة زوجته عند راهب قبطي، وهي حادثةٌ لم تُذكر في الروايات التاريخية. .. وصحيحٌ أن المسلمين كانوا يقصدون الأديرة آنذاك للاستطباب، لكن هذا لم ينطبق على الشافعي الذي كان ملمّا بالطب والتشريح، وكاد علمه بالطب يقارب علمه بالشرع. وللشافعي مقولة في هذا الصدد “العلم علمان: علم الدين وعلم الدنيا، فالعلم الذي للدين هو الفقه، والعلم الذي للدنيا هو الطب.. ولا أعلم بعد الحلال والحرام أنبل من الطب، إلا أن أهل الكتاب قد غلبونا عليه”.

ويبدو أن الدراما المصرية أصبحت منذ تسعينيات القرن الماضي مهووسةً بإظهار التناغم بين المسلمين والمسيحيين، سواء في الأعمال الدرامية الاجتماعية التي تتناول الحاضر، أو التاريخية التي تتناول الماضي، وهذا هدفٌ حسن، لكنه مشروط بالوقائع التاريخية، سيما في مثل هذه الأعمال القائمة على الحقيقة التاريخية.

يؤثر ليّ التاريخ من أجل أهداف أيديولوجية حاضرة سلبا على العمل الدرامي المنوط به تقديم مادة معرفية صحيحة إلى المتلقّي بجانب الرسالة السياسية المُراد إيصالها، والتي يجب أن تكون محكومةً ضرورة بالأولى، أي بصحّة الواقعة تاريخيا.

ومن الأخطاء الكبيرة انتحال أبياتٍ شعرية للشاعر السوري المعاصر حذيفة العرجي وربطها بالشافعي. وفي هذا الصدد قال المدقق اللغوي للعمل، الأستاذ المساعد في قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة ومدير مركز اللغة والثقافة العربية في جامعة القاهرة، أحمد عمّار، إن هذا خطأ لا يغتفر ولا يمكن الدفاع عنه وإلا اعتبر مشاركة بالخطأ مرة جديدة. وأضاف: “الخطأ في الحالة العادية ليس خطأ مدقّق اللغة، لأن مهمته تنحصر في ضبط النص بنية وإعرابا، وليس من دوره البحث عن مرجع هذا النص أو ذاك، فهناك مسؤول عن ذلك”. لكنه أضاف، “أنه في الأبيات الشعرية هذه المنسوبة للشافعي، يختلف الأمر، إذ كان عليّ أنا أن استشعر الخطأ والانتباه إلى الكسر العروضي الموجود في البيت الأول”، وهو كسرٌ لم يوجد في أصل البيت الشعري لحذيفة العرجي، بل كُسر البيت في أثناء عملية نقلهما إلى الممثل خالد النبوي، فقرأهما النبوي بحذف الحركة الأولى من متفاعل، فقال: تضيقُ دُنيانا فنحسَبُ أنَّنا سنَموتُ يأساً أو نَموت نَحيبا، والصواب هو: وتضيق دنيانا…

على مستوى النقد الفني، لم يُظهر العمل أهمية الشافعي التاريخية الكبيرة على مستوى بنائه علم أصول الفقه، وهي المهمّة الكبيرة التي قام بها للتخفيف من تضخّم مدرستي الحديث والرأي المتنافستين آنذاك. لقد عمل الشافعي، مستفيدا من منهجية الخليل بن أحمد الفراهيدي في تقنين البيان، ألفاظا وأوزانا، ومنهجية سيبويه في تقنينه إعرابا وتصريفا، فقام بتقنين البيان (النص القرآني) من جهة تحديد علاقة المبنى بالمعنى، من أجل ضبط العلاقة الفقهية بين الأصول والفروع. ولذلك، حدّد الشافعي خمسة وجوه للبيان، ومنها حدد أصول الفقه / التشريع في أربعة: الكتاب، السنة، الإجماع، القياس.

اكتفى العمل بالمرور سريعا جدا على مقولات الشافعي، فظهرت عامّة وفضفاضة تصلح لأي فقيه، مثل الاجتهاد والإجماع والقياس، أحكام الزواج والطلاق … إلخ.

وعلى مستوى النقد الفني أيضا، افتقر العمل إلى الحاضنة السياسية ـ العسكرية التاريخية، فلم يُظهر لنا سوى صراع بين ابن الوالي وحاكم الفسطاط، مع بعض التفاصيل الجزئية التي لا تضفي أية قيمة معرفية لفهم المشهد السياسي ـ العسكري في مصر زمن الشافعي. وحتى في البعد الاجتماعي، والذي يجب أن يكون حاضرا في أي عمل فني تاريخي، كان هذا البعد القصصي ضعيفا وغير شائقٍ بتاتا، ولا يوضح ماهية البنية الاجتماعية في تلك المرحلة. ولذلك جاء العمل أحاديّ الاتجاه، تتمحور فيه جوانب جانبية من شخصية الشافعي.

مقالات ذات صلة