التنمية العربية بعد المستجدات الدولية

سامر خير أحمد

حرير- الصدام الأميركي الصيني الدائر حالياً، حامياً أحياناً وبارداً في معظم الوقت، ربما تكون له تداعيات مؤثرة على مختلف مناطق العالم ودوله في السنوات القليلة المقبلة، ومن ذلك تغيير “الثوابت” الاقتصادية التي سادت العالم منذ انتهاء الحرب الباردة، وكانت ذات أثر كبير على السياسات التنموية في الدول النامية، وطبيعة علاقاتها الاقتصادية مع الدول الكبرى، وهذا ربما يسمح للصين بالحصول على مكانة اقتصادية أكبر على الساحة الدولية، وربما يكرّس سيطرة الولايات المتحدة لو نجحت في كبح جماح التطلعات الصينية… علينا أن نقرأ هذه التداعيات من زاوية تأثيرها على التنمية في بلداننا، والآفاق المستقبلية التي يمكن أن توفرها لنا.

من الناحية التاريخية، فشلت سياسات التخطيط المركزي التي عرفتها بلدان عربية، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، في تحقيق استقلال اقتصادياتها، لعوامل داخلية إدارية، أو بسبب أعباء المواجهة مع “إسرائيل”. وانعكس هذا سلبياً على قدرتها على اتخاذ قرارات تنموية نافعة، تترك أثراً استراتيجياً ملموساً على اقتصادياتها. لذلك، سعت بعض تلك البلدان قبل اندلاع ثورات الربيع العربي، مثل مصر، إلى إعادة النظر في اقتصادياتها، فاعتمدت من جديد على الاستثمار الأجنبي، وتحرير الاقتصاد بعيداً عن تدخّل الدولة، وتشجيع الصناعة التصديرية، كما أقامت الدول التي لم تراجع اقتصادياتها (مثل العراق قبل احتلاله في عام 2003) علاقات مع رأس المال الأجنبي من خلال اتفاقيات وعقود جرى توقيعها من خلال الدولة. لكن تلك الإجراءات التي جرى تسويقها في بعض البلدان باعتبارها “إنقاذية” كان لها ثمنها الاجتماعي، كما بات معلوماً، ولهذا ظهر بيننا (في العالم العربي) من يفرّق بين التدخل التوجيهي المحدود والسيطرة الشاملة على طريقة الإدارة شديدة المركزية، معتبراً أن هذه الأخيرة قد تؤدّي إلى تعطيل الاستثمار وبالتالي إعاقة جهود التنمية، فالذين نادوا بهذا التفريق أخذوا باعتبارهم، في شأن جذب الاستثمار الأجنبي، ما أنتجته المرحلة التي عاشها العالم منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين، من مجالاتٍ لتعميق الاختلال في العلاقات الاقتصادية بين البلدان العربية ذات الإرث الشمولي، والعالم، من ناحية “الاندماج بالاقتصاد العالمي”؛ إذ كان من الطبيعي أن يؤدّي انفتاح اقتصاديات الدول النامية، باتجاه إدماجها في الاقتصاد العالمي، سعياً إلى الحصول على التمويل والاستثمارات الأجنبية، إلى تعميق تبعيتها لاقتصاديات الدول المتقدّمة، ذلك أن العلاقة بين الطرف المتقدّم والطرف المتأخر، التي تُقام على أساس “الاعتماد المتبادل” لا بد أن تميل لمصلحة الأول، كونه الأقدر على التحكّم بمضمون التبادل وشروطه وحدوده.

وعلى هذا، كان طبيعياً أن تتعارض مساعي الدول النامية لإدماج اقتصادها في الاقتصاد العالمي، بغية تسريع عملية التنمية، مع أهداف التنمية، بخاصة من زاوية انعكاساته السلبية المباشرة على مصالح الشعوب، إذ إن هذه الشعوب، التي هي في الغالب ذات مستويات معيشية منخفضة قياساً إلى شعوب الدول المتقدمة، قد تخضع إلى ضغوط السلع والخدمات ذات الجودة العالية التي تعرضها الدول المتقدمة مستعينة بما تتوفر عليه من قدرات إعلانية ودعائية ضخمة، وهكذا يكون على الدولة الطامحة للتنمية أن تتخذ إجراءات تحول دون خضوع شعوبها لتلك المواد المستوردة، عبر التحكم في إنتاج سلع وخدمات محلية تلبي الحاجات الأساسية الداخلية، قدر الإمكان.

ما كان يقوله أصحاب دعوة التفريق تلك إن إجراءات “التصحيح الهيكلي” التي ظلت علامة من علامات “العولمة”، وفيها تحدّ الدولة من تحكمها في الإنتاج وتقرير الأسعار والتجارة الخارجية وحركة النقد الأجنبي، وتوقف سياسات الدعم والمنح وتعمل على خصخصة المؤسسات العامة، ثم تترك دورها المركزي في الاقتصاد لقوى السوق، كلها كان يمكن أن لا تكون مطلقة، وكان يمكن لجم آثارها السلبية بسياسات تعويضية للمجتمع، وحمائية للصناعة الوطنية، بما يخدم أهداف التنمية.

اليوم، في ظل ترقب العالم لتغييرات اقتصادية وسياسية عميقة في علاقات القوى الكبرى، سيكون مدى تحقيق فوائد عربية تنموية متعلقاً بالكيفية التي يُدار بها الاقتصاد: هل سيتابع العالم العربي “النامي” سياساته الاقتصادية الانفتاحية وإطلاق يد قوى السوق في التحكم بحياة الناس، والتي انعكست سلبياً على التنمية، وعلى مستوى معيشة الشعوب، وساهمت بدون شك في إطلاق ثورات “الربيع العربي”، التي انطلقت شرارتها من تونس احتجاجاً على الإساءة لفقير يبيع الخضار على عربة في السوق، ما أفضى إلى حرقه نفسه؟ أم ستفرض الدول العربية تدخّلاً حكومياً توجيهياً، حماية لاقتصاداتها الوطنية، وخدمة للتنمية؟ أم أن تغير علاقاتها الاقتصادية مع القوى الاقتصادية الكبرى من جهة، والمنظمات الدولية الاقتصادية التي ظلت عنواناً لعقود القطبية الأميركية الواحدة، ستقودها إلى نمط اقتصادي جديد يقوم على التوازن بين أشكال الإدارة الاقتصادية التقليدية؟

سيكون علينا أن نراقب مستجدّات السياسات التنموية في الدول العربية، كما نراقب المستجدّات السياسية على الساحة الدولية بين القوى الكبرى، لكن المؤكّد أن البلدان النامية الطامحة إلى التنمية والنهوض ستكون أمام فرصة تاريخية لتنويع بدائلها وتطوير سياساتها الاقتصادية بالاعتماد على المنافسة العالمية بين الصين والولايات المتحدة، واللافت هنا أن دولة عربية عرفت بعلاقاتها التقليدية مع الولايات المتحدة، مثل السعودية، باتت من خلال تطوير علاقتها مع الصين قادرةً على التقدّم في مجالات تنموية وصناعية غير مسبوقة، بشكلٍ يخدم دورها الإقليمي. أما على صعيد الدول غير النفطية، ستكون مجالات التطوير أكبر بالاستفادة من مبادرة الطريق والحزام الصينية. لكن هذا كله يظل مرهوناً بمسارات التنافس الصيني الأميركي، وما إذا كانت بكين ستضطر إلى تقديم تنازلاتٍ تجنباً للصدام مع واشنطن أم لا، وما إذا كان البيت الأبيض سيذهب بعيداً في نياته الصدامية أم لن يفعل.

مقالات ذات صلة