الثقة في الجيش أو كيف يقرأ الإسرائيليون استطلاعات الرأي؟

أحمد الجندي

حرير- أقرّت الحكومة في الأيام الماضية ميزانية الدولة لعام 2024، والتي ينتظر إقرارها من الكنيست في قراءات ثلاث تنتهي في 19 الشهر المقبل (فبراير/ شباط). وتفيد بيانات الحكومة بأن نسبة العجز المتوقع قد تتخطّى حاجز 6.6%، نتيجة اضطرارها لزيادة ميزانية الجيش بعشرات مليارات الشواكل لتغطية احتياجات جنود الاحتياط وعائلاتهم، إضافة إلى الاهتمام بتسليح الجيش وتحديثه وإنشاء بنى عسكرية جديدة. وهذا يعني خفض بنود أخرى للميزانية، وهو ما يشير إلى أن المواطنين والدولة سوف يضطرّون إلى التنازل عن احتياجاتٍ وضروراتٍ كثيرة للوفاء بمخصّصات الجيش المطلوبة.

لكن المشكلة أن ارتفاع ميزانية الجيش لا يعني تحسن أدائه؛ إذ إن اهتمام الجيش بتحسين الكفاءة التكنولوجية، ودعم آلته العسكرية لا تنعكس على المقاتلين، بل إنها عادة ما تأتي بنتائج عكسية؛ حيث تتراجع كفاءة المقاتل في الميدان. وقد عبّر عن هذا المعنى الوزير السابق في حكومة ليبيد/ بينيت، نحمان شاي، والذي سبق أن عمل متحدّثا باسم الجيش بين عامي 1989 و 1991، بقوله إن إحدى مشكلات الجيش الإسرائيلي الحالية ليست المال، ولا نوعية السلاح المستخدم، بل الجندي الذي يجلس في الدبّابة، والطيار الذي يقود الطائرة؛ فالمشكلة دائما كانت الإنسان، ودافعيّته، وجهوزيته القتالية وليس الآلة. ويرى شاي أن الجيش لم يعد يحظى بأفضل العناصر البشرية، وأن المفروض في ظلّ ما كشفته أحداث 7 أكتوبر أن يكون أفضل الأفراد هم من يعملون في الجيش. ويؤكّد أنه، بحكم عضويته في لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، كثيرا ما سمع شهاداتٍ من قادة الجيش يشتكون من نقص القيادات ذات الكفاءة العالية، وأنه لكي يصبح لديهم قادة أسلحةٍ ووحداتٍ قتالية أكفاء، يجب أن يكون لديهم قبل ذلك قادة سرايا، وقادة كتائب على درجة عالية من الكفاءة، وهذا ليس مُتاحا حسب كلامهم. وعلى هذا النحو، يمكن أن يتخيّل المرء مستوى قيادة الجيش الصهيوني بعد 15 أو 20 عاما، على أساس أن هذه القيادة المستقبلية ما هي إلا إفراز طبيعي من ضباط الجيش الحاليين ذوي الكفاءة المتدنّية أصلا.

يعني كلام شاي أن الجيش الإسرائيلي، رغم امتلاكه تكنولوجيا عسكرية متقدّمة للغاية، فإنه، في المقابل، لا يملك الأفراد الذين يتمتعون بالكفاءة القتالية.. ولا شك أن السلاح الأهم في أي جيش هو الجندي نفسه، فهو قبل الآلة. لكن هذا الكلام لا يتم تداوله بشكل واسع في إسرائيل، ويجري التعتيم على كل ما يُظهر ضعف الأداء القتالي للجنود، في مقابل ترويج إنجازات وأحاديث البطولات التي يقوم بها الجنود من أجل رفع الروح المعنوية للمدنيين، ورفع مستوى الثقة في الجيش التي تدّنت مباشرة في أعقاب الفشل الأكبر في 7 أكتوبر.

كان المعهد الإسرائيلي للديمقراطية قد نشر استطلاعا للرأي في 23 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أي بعد أسبوعين من بدء عملية طوفان الأقصى، وكشف عن ارتفاع الثقة في الجيش إلى 87% من بين المستطلعة آراؤهم، ولم تكن العملية البريّة على قطاع غزّة قد بدأت بعد. وبعد شهر، في 22 نوفمبر/ تشرين الثاني، نشر معهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب استطلاعا آخر يظهر ارتفاعا أكبر في مستوى الثقة بالجيش، لتصل ثقة الجمهور الإسرائيلي إلى نحو 90% من إجمالي المستطلعة آراؤهم، وهي نسبة كانت مقاربةً لنسبة من يثقون في قدرة الجيش على الانتصار في حربه على قطاع غزّة، بل وفي الجبهة الشمالية في حال اندلعت الحرب هناك. كما كشف الاستطلاع عن اعتقاد أغلب المستطلعة آراؤهم 76% بأن الجيش سيحقّق كل أهداف الحرب التي أعلنها.

والحقيقة أن هذا المستوى المرتفع للثقة يبدو غريبا تماما بعد الإخفاق الكبير الذي حدث في 7 أكتوبر، والذي لم يتمكّن الجيش الإسرائيلي من معالجته في ظل عدم وجود إنجازات عسكرية حقيقية على الأرض، ولا تحقيق للأهداف التي وضعت عند بدء إسرائيل حربها على قطاع غزّة. ليس هذا الاستغراب مقصورا علينا فقط، بل يمتد إلى الإسرائيليين أيضا؛ وقد حاول متخصّصون في معهد دراسات الأمن القومي تفسير هذا الوضع؛ وقالوا إن الصورة تبدو أعقد بكثير؛ إذ إن النظرة المتعمّقة إلى البيانات، وكذا تقارير وسائل الإعلام عن الثقة العالية في المؤسّسة العسكرية، قد لا تعكس بالضرورة عدم وجود أزمة ثقة في الجيش قوةً عسكرية، فأزمة الثقة موجودة فعلا، لكن الأرقام المرتفعة يمكن تفسيرُها من زاويتين: أولاهما الارتباط العاطفي الواضح بين الجمهور والجيش، والأخرى أن الجمهور تغاضى مؤقتا عن الفشل الذي حدث، واعتبر أنه ليس من المناسب التعبير عن مشاعر سلبية في ظل استعار الحرب، وهو موقفٌ مبدئيٌّ يضع الجيش أمام مسؤولياته، ويحمّله التزامات تجاه الشعب في وقت حربٍ يتفق الجميع أنها وجودية. ومن المرجّح أن يستمرّ الجمهور على موقفه هذا حتى تنتهي الحرب لتبدأ المحاسبة، ويظهر مستوى الثقة الحقيقي حينها، والذي سيتأثر بالتأكيد بما تنتهي إليه الحرب من نتائج. وهذا كله لا يعني أن الثقة بالجيش لم تتضرر مهما كانت نتائج الاستطلاعات.

ويؤكّد الباحث في العلوم السياسية في الجامعة العبرية، أفيشاي بن ساسون جورديس، الأمر نفسه؛ ففي مقال بعنوان “الحرب على الثقة” نشره في موقع “ليبرال”، يرى أن استطلاعات الرأي التي تعكس ثقة مرتفعة في المؤسّسة العسكرية لا تنفي وجود مشكلة ثقة تؤثر في قدرة الجيش على خوض هذه الحرب، أو الاستعداد لأي حرب قادمة، فمؤكّدٌ أن هناك قناعة لدى الجمهور بأن الجيش مسؤول مركزي في فشل 7 أكتوبر، فالأمر يشبه من أعطى للبنك كل ثروته لحفظها واستثمارها، ليكتشف أن البنك استثمرها بشكل غير مسؤول وبدّد أمواله، وحين يُسأل لاحقا عن مستوى ثقته في البنك يجيب إن ثقته فيه عالية.. أهمية الثقة هنا تؤثر على شرعية الجيش، واحترامه، وتقدير العاملين فيه، وهذا كله ينعكس على تخصيص الميزانيات التي يريدها، فكلما زادت الثقة كلما كان الشعب سخيا مع مؤسسته العسكرية.

ويثير جورديس مسألة أكثر أهمية؛ إذ يذكُر سببا آخر ينبّه من خلاله الإسرائيليين إلى عدم الإفراط في الإعجاب بمستوى الثقة المرتفع، معتبراً أن الحرب الحالية أسهمت في الإبطاء من عملية التآكل في مكانة الجيش لدى الجمهور؛ ففي مطلع عام 2022 كانت الصحف تصرُخ إن ثقة الجمهور في الجيش تراجعت لأول مرة من 90% إلى 78% في 2021، وفقا لقياسات المعهد الإسرائيلي للديمقراطية. وأنه رغم تحسن هذه الثقة في عام 2022 فإن الصراعات السياسية الناجمة عن التعديلات القضائية ألقت بظلالها على هذه الثقة حسب المعسكرات السياسية والأيديولوجية، وأدّت إلى تسييس الجيش، وتوقّف جانبٌ كبيرٌ من هذا التسييس بفعل توقف خطة التعديلات القضائية. ويرتبط بذلك ما أشار إليه كتاب إسرائيليون من أن العلاقات العسكرية المجتمعية هي مثلث ذو ثلاثة أضلاع هي الجيش والمجتمع المدني وقادة الدولة السياسيين، وقد رأينا كيف تدهورت العلاقة، وما زالت، بين القيادة السياسية وقيادة الجيش، إلى درجة إلقاء اللوم كاملا عن الهزيمة على هيئة الأركان، إضافة إلى كثير من التوتر المعلن الذي ما زال يسود العلاقة بين الطرفين.

لا ينبغي لنا إذا أن نقرأ استطلاعات الرأي الإسرائيلية عن ارتفاع ثقة الجمهور الصهيوني في الجيش على أنها حقيقة لا تقبل النقاش، ولا أنها مسلّمات، فالجيش الإسرائيلي، حسب محللين إسرائيليين كثيرين، “عالق بالفعل في فخ”، وهو فخٌّ يحتاج الخروج منه إلى جهود عملاقة تتضمّن تحقيقات موسعة عن الفشل، وتقييما للأداء الخططي والقتالي في الميدان، وعملية إعادة بناء كاملة نتيجة ترهّل يكاد الجميع يتفقون عليه، وإن اختاروا السكوت عنه الآن، وقبل ذلك كله، أن يبدأ الجيش بتحقيق الأهداف التي حدّدها من حربه على غزّة، وهو أمرٌ يبدو أنه يبتعد أكثر عنه يوماً بعد آخر.

 

مقالات ذات صلة