
«الجميلات» و«الوحوش»
توفيق رباحي
حرير- كل تلك الإبادة المفتوحة والقصف المستمر والحرق والتجويع والتهجير بحق قطاع غزة، والمزاعم المكررة بإلحاق ضربات قاصمة بحماس، ثم يظهر مقاتلو الحركة مرتين أثناء تسليم الأسيرات الإسرائيليات للصليب الأحمر وكأنهم عائدون للتو من رحلة استجمام.
ما استوقف العالم ليس فقط نظافة المظهر والبدن والعربات وانعدام علامات الإنهاك من حرب الإبادة وأهوالها، بل أيضا الانضباط والنشاط ودقة حركات المقاتلين وحرصهم على التفاصيل مهامهم أثناء التسليم، رغم رهبة الموقف وما رافقه من صعوبات لوجستية وضغط وتوتر.
لكن مثل مقاتلي حماس، وربما أكثر، شدّت الأسيرات الإسرائيليات أنظار العالم بمظهرن. هنا أيضا ليس فقط نظافة الهندام والبدن، بل انعدام آثار المعاناة.. لا غبار ولا آثار تعذيب أو سوء تغذية أو أذى بدني أو نفسي متعمد، ولا علامات على وحشية لم تتوقف وسائل الإعلام الإسرائيلية والغربية يوما عن تذكير العالم بوجودها منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023.
عدا انعدام آثار المعاناة والمظهر اللائق والشعر المنسدل والأسارير المنفرجة، المعنويات المرتفعة للأسيرات، المدنيات والمجنَّدات، والتي تجلت في عفويتهن وحركاتهن الرشيقة وهنّ يقفزن من سيارة إلى أخرى. من الصعب أن يدّعي أحد أن الأسيرات كنَّ يصطنعن تلك السعادة لأن لا قوة فوق الأرض تستطيع إجبار فتاة في مقتبل العمر على اصطناع السعادة في تلك البيئة «المعادية» وصخب الحشود والتكبير، وبعد سنة وأربعة أشهر من الحجز تحت الأرض بين «الوحوش». في المقابل من الصعب القول إن الأسيرات لم يتعرضن لأذى نفسي ولم يختبرن أيّ ألم. لكن مهما كانت المعاناة شديدة، من الواضح أنها لم تصل حد كسر الأسيرات ذهنيا ونفسيا، والدليل أريحيتهن أثناء تسليمهن.
سيتساءل العالم طويلا عن سر ظهور من اتفق العالم الغربي على تصنيفهم «الجميلات» من دون أدنى علامات الحرب: من اهتم بحمّامهن وزينتهن وبتصفيف شعرهن؟ وأين وكيف؟ وماذا كان أكلهن حتى لم يصبهن سوء التغذية؟ وسيسأل عن سر أريحية «الوحوش»: كيف حافظوا على لياقتهم وقوتهم وسط حرب شعواء تفوق الوصف؟ أين خبّأوا لباسهم العسكري طيلة شهور الحرب؟ من كواها لهم في الأخير وأين؟ من أحضر الهدايا وأعدّها بتلك الدقة؟ في أيّ مطبعة طبعوا تلك اليافطات الكثيرة والمتعددة الأشكال والأحجام؟ في أيّ كاراجات خبأوا السيارات وأين؟
يحق للإسرائيليين أن يسألوا حكومة بلادهم وجيشهم عن هذه الألغاز. وسيقولون سرا وعلنية إن في تلك المشاهد نكبة لسياسييهم وعسكرييهم وصفعة لكل إسرائيل.
ليس من مصلحة معسكر شيطنة حماس والفلسطينيين التوقف عن المتاجرة بالكوابيس والمعاناة و«الوحوش» لأن ذلك يقتل السردية التي بُنيت عليها القصة كلها منذ يومها الأول. وسيأتي من يرد بالقول إن هذا يدين حماس ولا أحد غيرها لأنها أعدّت نفسها للحرب ثم سلّمت المدنيين في غزة فريسة لآلة الإبادة الإسرائيلية. لكن أليس من الإنصاف القول إن نسبة الضحايا المقاتلين في كل الحروب أدنى من النصف مقارنة بالمدنيين، وأن إسرائيل صمّمت منذ اليوم الأول على خوض حرب انتقامية توراتية تعمّدت فيها إبادة المدنيين، لأنهم أهداف سهلة، أكثر مما سعت لاستئصال حماس؟
مشهد «الجميلات» و«الوحوش» يحيل إلى ملاحظات جدية: إما أن حماس دولة حقيقية وتمتلك فعلا شبكة أنفاق هي عبارة عن مدن محصنة بعيدا تحت الأرض (إذا عجزت القنابل الأمريكية الضخمة والموجهة عن الوصول إليها فمن سيستطيع؟). وإما أن الجيش الإسرائيلي يقوده فاشلون أنجزوا كل أنواع الجرائم في غزة إلا القضاء على حماس وإنقاذ مواطنيهم.
يستطيع خصوم حماس والمؤرخون والملاحظون من الآن التغني بأن حماس لم تنتصر. لكن النزاهة الفكرية تحتم عليهم الإقرار بأنها، في المقابل، لم تنكسر. سيؤلم هذا الواقع إسرائيل وأطرافا أخرى ساءها أن يضطر نتنياهو لوقف الحرب قبل أن «يُكمل المهمة». بين هؤلاء عرب التطبيع الذين تألموا في صمت ولطم إعلامهم على مشاهد مقاتلي الحركة في شوارع غزة مثلما تألم الإسرائيليون ولطموا.
لو أن حماس سجلت فيديوهات اللحظات الأخيرة للأسيرات يصفن فيها ظروف اعتقالهن واستعدادهن للعودة إلى عائلاتهن، لاتهمها العالم بإجبارهن على قول أشياء والكذب في أخرى ووصَفها بشتى الأوصاف القبيحة. لهذا يقع على إسرائيل واجب ترك الأسيرات السابقات يكشفن بلا رقيب تفاصيل تجربتهن إلى اللحظات الأخيرة.
عملية تبادل الأسرى على ضوء اتفاق وقف إطلاق النار كانت في حد ذاتها معركة داخل معركة أكبر. لحد الآن سجلت حماس فيها نقاطا منها أنها برهنت عن أنها لم تؤذ الأسيرات، كما تردد في أصقاع الدنيا طيلة 16 شهرا، رغم الظروف القاسية جدا التي احتجتني فيها وصعوبة تأمين سلامتهن من القصف الإسرائيلي. ومنها برهنتها (حماس) على أنها لا زالت تحتفظ بقدراتها وانضباطها رغم كل ما أصابها على صعيد البشر والقدرات العملياتية والتنظيمية. ومنها أيضا أنه بينما تغادر الأسيرات «جحيم» غزة يقفزن بأريحية وخفة كالفراشات، يخرج الأسرى الفلسطينيون من السجون الإسرائيلية محطمين جسديا وروحيا بعضهم عاجز عن الوقوف. هذه أيضا إدانة لإسرائيل ولمن يكررون باستمرار أنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، ولمتحدثيها العسكريين والحكوميين وزعمهم أن السجناء موقوفون بحكم القانون ويخضعون لمعاملة إدارية وقانونية سليمة (كيف سيكون حالهم لو أن إدارات السجون عاملتهم معاملة غير قانونية؟).
وبينما يحتفي المجتمع الإسرائيلي بالأسيرات العائدات، وسيفعل مع الدفعات اللاحقة، تمنع السلطات الإسرائيلية عائلات الأسرى الفلسطينيين من إقامة أبسط مظاهر الفرح والاحتفال وتعتدي بالقوة على من خالفوا أوامرها.
من الصعب على نتنياهو أن يدّعي بعد اليوم بأنه انتصر أو ألحق بحماس ضررا يقود إلى موتها. عليه أن يواجه في الأسابيع المقبلة عودة الحركة لملء الفراغ وضبط الأمن، لأن لا أحد يستطيع فعل ذلك في المرحلة الانتقالية، ولأن ترك القطاع بدون الحد الأدنى من الأمن والتنظيم أمر غير ممكن.



