البليونير “العبقري” والصحافي الشجاع

دلال البزري

حرير- ليس هناك ما يجمع بينهما سوى شريطين انتشرا على الشبكة في اليوم نفسه، منذ أكثر من أسبوع، يتكلمان فيه عن الحرب على غزّة. الأول، البليونير الأميركي، إيلون ماسك. والثاني، الصحافي الإسرائيلي جدعون ليفي.

في شريطه، يبدو ماسك جالساً، يدرْدش مع الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ. يعبّر عن ألمه لما شاهده في زيارته كيبوتس كفر عزة، على الحدود الجنوبية مع غزّة، ويحسم أن أمرا واحدا يجب القيام به. موجّهاً كلامه إلى الرئيس: “اقتل أولئك الذين لا يقبلونك سيّداً لهم، وحضّرهم بالتعليم، وقلْ لهم إنك تجلب التنمية للفقراء وغير المتحضِّرين”.

في الشريط الثاني، يظهر جدعون ليفي، واقفاً، يتكلم أمام جمع من الناس، وينتقد رؤية إسرائيل لحلّ الدولتين، لأنها برأيه “قائمة على نزع الدولة الفلسطينية من السلاح، وابقائه وتطويره بكل الطرق بيد إسرائيل. كيف تريدون أن تكون دولتهم منزوعة من السلاح؟ أية دولة تقبل أن تكون منزوعة السلاح؟ لماذا تملك إسرائيل كل الأسلحة الممكنة في العالم، ولا يحقّ للفلسطينيين أن يملكوا؟ أيّ نوع من العدالة هذه؟ على أيّ ادّعاء تقوم؟ على فكرة “الشعب اليهودي” المختار؟ أم على أساس الهولوكوست؟”.

وجدعون ليفي صحافي في صحيفة هآرتس الإسرائيلية، منذ 40 عاما. والصحيفة نفسها يعود تأسيسها إلى العام 1919. تقليدياً، تميل نحو إيجاد “تسوياتٍ” مع الفلسطينيين. وهي أول من طالب بانسحاب إسرائيل من حدود 1967. عرَفت قبولاً داخليا ًفي مناخ الحلول السلمية التي أعقبت إتفاقية السلام عام 1994. ولكن العلاقة بينها وبين قرّائها الإسرائيليين تدهورت بعد الانتفاضة الثانية. وهي اليوم تعتمد على قرّائها في الخارج وعددهم المليون شهريا، فيما يكتفي 66 ألف إسرائيلي بمتابعتها. جدعون ليفي هو صاحب القلم الأبرز فيها. له زاوية أسبوعية عمرُها سنوات، اسمُها “منطقة الشَّفق”، ينكبّ فيها على حياة الفلسطينيين اليومية. أصدر كتاباً عام 2009، عنوانه “معاقبة غزّة”، مخصّصا لأهل غزّة بعد العدوان الذي تعرّضوا له قبل ذلك بسنة. قال: “كتبتُه لأطلب من كل الإسرائيليين أن يناهضوا حكوماتهم، أو على الأقل أن يفهموا ماذا يُرتكب باسمهم، لكي لا يدّعوا يوماً بأنهم لم يكونوا يعرفون”.

وعندما تراجعت مبيعات “هآرتس” بعد الانتفاضة، كانت غالبية الأسباب التي أوردها المقاطعون تتعلق بكتابات جدعون ليفي بالذات، “أكثر المحلِّلين جذريةً”. أي أن ليفي غير شعبي هناك، يقول إن ولديه الاثنين لا يقرآن ما يكتب، وإنه يتعرّض أحيانا في الشارع لمضايقات وشتائم ولعنات من مارّة تعرفوا إليه… فضلا عن تُهم “الخيانة”، ترمى عليه كلما يحتدم السجال بينه وبين المعترضين على مواقفه.

وفي مقابلة أجريت قبل أيام مع وكالة الأناضول التركية، يتكلم ليفي عن الحرب على غزّة: يرتكب الجيش الإسرائيلي “جرائم حرب” ضد الفلسطينيين منذ 55 عاما، في الضفّة والقطاع. والطريقة الوحيدة لإنهاء الاحتلال أن تستوعب إسرائيل أن لهذا الاحتلال ثمنا. لا يرى تنازلات إسرائيلية إلا بتدخّل خارجي. لا يأمل بأن تغيّراً سوف يأتي من الإسرائيليين الذين يتّجهون نحو مزيد من العنصرية؛ وأنهم لن يستفيقوا يوماً، هكذا… ليقولوا لأنفسهم إن الاحتلال قاسٍ وشرّير، وإن نظام الفصل العنصري غير شرعي، وعلينا القضاء عليه. وإن إسرائيل ارتكبت النكبة الأولى، ولا يحقّ لها أن ترتكب ثانية. والأهم، ما يفسّر رأيه بحلّ الدولة الديمقراطية الواحدة، يقول حرفياً: “بين النهر والبحر، يعيش الآن سبعة ملايين ونصف مليون يهودي وسبعة ملايين ونصف مليون فلسطيني. لا يمكن أن تكون هذه المساحة ذات الشعبين محكومة بيهوديّتها، تحتلّ أرض شعب آخر، وتحكمه. إسرائيل اختارت أن تكون دولة يهودية، بدل أن تكون دولة ديمقراطية”… أكتفي بهذه الأقوال مع أن الإغراء كبير باستكشاف المزيد عن هذا الصحافي الفريد.

لنعد إلى إيلون ماسك. أغنى رجل في العالم. ولد في جنوب أفريقيا، من والدين من ذوي العرق الأبيض. هاجر إلى كندا ثم الولايات المتحدة، وهو في السابعة عشرة من عمره. شاطر في التكنولوجيا. وكل إنجازاته مدهشة ومدرَّة أرباحا طائلة. يملك شركة “تسْلا” للسيارات الكهربائية، وشركتَي “سبايس إكس” الفضائية و”ستارلينك” لخطوط الإنترنت عبر الأقمار الصناعية، وموقع تويتر الذي صار اسمه “إكس”… وربما أشياء أخرى لا نعرفها، أو لا نفهم تماماً طبيعتها. أثار أخيرا غضب إسرائيل، في “حادثين” منفصلين، مرتبطَين بممتلكاته هذه: الأول، أنه أثنى على منشور في “إكس” معادٍ للسامية. والثاني أنه اقترح على أهل غزّة تزويدهم بخطوط الإنترنت الفضائية من شركته، بعدما قطعتها إسرائيل عنهم. فكان رد الفعل الإسرائيلي سريعاً وعنيفاً، على المنشور وعلى اقتراح التزويد. بل من البيت الأبيض، الذي أصدر بياناً شديد اللهجة، وصفَ فيه المنشور بـ”المُقرف، يدعو إلى الكراهية واللاسامية والعنصرية”، فتراجع ماسك عن خطوط الإنترنت وعن مديحه “اللاسامي”، وراح يًطلق تصريحاتٍ مبرّئا نفسه من تلك التهمة. وبعد يومين، قرّر أن شعار “من النهر إلى البحر” لن يُنشر في موقعه.

لم يعرف إن كانت تلك الزيارة إلى إسرائيل، قبل أيام وقت الهدنة، بمبادرة منه أو بدعوة من إسرائيل. على كل حال، هو “صديق” لنتنياهو، التقى به منذ عامين، وتباحثا في اللقاء التكنولوجي بينهما. المهم، قبل الزيارة وفعل الندامة، سحبَ اقتراحه بتزويد الإنترنت لأهل غزّة. في أثنائها، “اطّلع” ماسك على الأوضاع، فرافق نتنياهو إلى كيبوتس كفار عزة، عاين الأضرار والضحايا، التقط الصور بنفسه، لابساً سترة مضادّة للرصاص…

تقول الأخبار غير الرسمية إن هذه الزيارة أسفرت عن اتفاق بين ماسك وشركة كورتيكا الإسرائيلية، صانعة تكنولوجيا في الذكاء الاصطناعي، موجَّه لخدمة السيارات الأكثر تطوّراً. وعُرف من اتفاقه مع وزير الاتصالات الإسرائيلي، شلومو كرعي، بمدّ خطوط ستارلينك إلى إسرائيل والأراضي المحتلة، وبوضعها تحت تصرّفه. وبذلك، يتوّج إيلون ماسك مسلكاً لا يعرف غير كيف يربح، كيف يصير أغنى، أقوى… يكفي أنه، مثلاً، يجمع بين نتنياهو وبوتين، بإعجابهما به. الأول يصفه بـ”العبقري”، والثاني يهنّئه بحرارة على رفضه طلب أوكرانيا مدّ خطوط ستارلينك إلى ميناء سباستوبول التي يحتلها جيشه.

ما فائدة هذه المقارنة؟ غير أنها تكشف لنا عن شخصيتين، برزتا، أخيرا، في الحرب على غزّة؟ الأولى، إيلون ماسك ولد في جنوب أفريقيا. عندما بلغ السابعة عشرة، عشية تحرّرها من نظام الفصل العنصري، تركها مع إخوته وأمه، بعد طلاقها من أبيه، وتوجه الأربعة إلى كندا ثم الولايات المتحدة، التي يحمل جنسيتها اليوم. وماسك لا يورد أصله الجنوب أفريقي على الإطلاق، بل يتجنّبه. ويقدّم نفسه كأنه أميركي “قديم”.

بقي والده، إيرول ماسك، هناك، وعُرف عنه مناهضته الفصل العنصري، واستمرّ كذلك. لا تعود القطيعة بين الأب وابنه إلى الأسباب التي يعلنها وحسب، أن الأخير منحلّ أخلاقيا، تزوّج ابنة زوجته الثانية وأنجب منها طفلين. إنما، بحسب ما ينضح به سلوكه، ومن تلاعبه بأعصاب الكبار ومصير الشعوب، إنه ليس رجل ضمير أو قناعة، كي لا نقول مبادئ وقيم. ورفضه من أبيه من رفضه قناعاته، أو أي نوع من القناعات. هو نموذج منتشر من بليونيرات التكنولوجي، يتوسّل خدماته رؤساء الدول. بما يجعله أكثر حريةً من أي واحد منهم. فما حاجة المبادئ ساعتئذ؟ حتى لو كانت كاذبة، انتخابية؟

أما جدعون ليفي، فولد في إسرائيل، من والدين يهوديين ذوي أصول تشيكية. في مقال مطوّل عنوانه “غريب في بيت الأجداد”، يذهب ليفي إلى حيث يقتفي أثر أبيه؛ مدينة سآتز التشيكية في منطقة بوهيميا، بعدما استبدّ به العمر، وبدأ يتذكّره، ويكسر صمت أبيه ورغبته الملحّة بالنسيان. فلدى وصوله إلى سآتز، تتحوّل هذه إلى مكان مرغوب، مدينة قديمة وجميلة، يريد أن يعرف عنها كل شيء، يأسف لأن الشهود عليها رحلوا. يذهب إلى رصيف محطّة القطار القديمة في المدينة، ذاك المكان الذي ودّع فيه أبوه أهله وخطبيته إلى الأبد، عام 1939. يبحث في لائحة الثمانين ألف يهودي من بوهيميا الذين قضوا في المحرقة، فيجد اسمي جدّه وجدته، محفورين على شاهد القبر، مع تواريخ ولادتهما وموتهما. ويغرق في البكاء. القصد هنا أن ليفي لم ينبذ أهله لينقد إسرائيل، ولا أنكَر عذاب الهجرة والمحرقة. يريد أن ينبش أكثر، أن يفهم أكثر، أن يقيم صلة ربطٍ بينه وبين ذاكرته، وربما ذاكرة شعبه. من دون أن تكون مأساته محور حياته، من دون أن تسمح له بالتعامي عن مأساة من حوله، حتى لو لم يكونوا يهوداً، أو ناجين من محرقةٍ نازية.

أحياناً، ابحث عن الأب، بعد الأم أو قبلها، لا فرق.

مقالات ذات صلة