يليه ام ماردونا … سليمان المعمري

في أوائل الثمانينيات، عندما كنتُ في المدرسة الابتدائية، سمعتُ أحد الأطفال يروي قصة عجيبة في معرِض إعجابه بهذا اللاعب الفذ، مختصرها أنه في إحدى المباريات نال فريقه ضربة جزاء، وكان عليه هو أن يسددها في مرمى الفريق الخصم لأنه أهم وأفضل لاعب في الفريق. وبالفعل، سدد اللاعب الكرة وأحرز الهدف، لكن تسديدته من فرط قوتها اخترقت بطن حارس المرمى وخرجت من ظهره!.

كانت هذه بداية غير موفقة للتعرف على بيليه؛ اللاعب الأشهر الذي رحل عن عالمنا قبل يومين. أعترف أنني لم أحبّه كمارادونا وميسي وزيدان، ربما بسبب هذه الصورة البشعة التي ترسخت في مخيلتي سنين طويلة، وأنا أصدقها ببراءة الأطفال. وعندما كبرتُ قليلا، وبدأ وعيي يتفتّح، انتبهت متأخرًا أن تلك القصة لم تكن إلا تعبيرًا شعبيًّا عن الإعجاب الشديد ببطل. هكذا تؤسطر المخيلة الشعبية أبطالها. ألم تجعل السائل البيولوجي لعنترة بن شداد وقت تلبيته نداء الطبيعة يخرق الصخرة من قوة اندفاعه!.

وحين عرفتُ أن بيليه إنسان مثلنا، لم يكن ممكنًا الانبهار به بأثر رجعي، إذ كان مارادونا قد فعل أفاعيله في مونديال 1986م وخطف إعجاب الملايين، ومن بينهم ذلك الطفل الذي كنتُه، والذي أصبح حينئذ فتى مراهقًا سمع عن لعب بيليه، لكنه يرى بأم عينه دييجو وهو يتلاعب منذ منتصف الملعب بنصف دستة من لاعبي إنجلترا ثم الحارس قبل أن يودع الكرة الشباك. وبالطبع ليس من رأى كمن سمع.

غير أنني سأعرف بعد ذلك، أن لقطات بيليه هي الأخرى؛ تلك التي كان يبثها برنامج “المجلة الرياضية” على التلفزيون العُماني في الثمانينيات، لا تقلّ جمالًا عن لقطات الساحر الأرجنتيني. كما أنني سأعرف لاحقًا أنه ما مِن لقطة كروية ساحرة نفّذها أحد نجوم اللعبة بدءًا من يوهان كرويف ومارادونا ومرورًا بزيدان ورونالدينيو وأنييستا، وليس انتهاء بميسي وكريستيانو رونالدو، إلا وكان بيليه قد سبق إليها بلقطة مشابهة واحدة على الأقل، بما في ذلك هدف مارادونا الشهير في مرمى إنجلترا الذي أشرتُ إليه قبل قليل.

وإذا كان مارادونا قد صنع من فريق ضعيف كنابولي الإيطالي ناديًا قويًّا يفوز بالدوري الإيطالي مرتين، وهو الإنجاز الذي لم يستطع النادي تحقيقه بعد رحيل النجم الأرجنتيني عنه أبدا، أو لنقل حتى كتابة هذه السطور، فإن بيليه أيضًا قفز بناديه سانتوس البرازيلي قفزات هائلة خلال لعبه له في الفترة ما بين عامي 1956 و1974م، حتى لَيمكننا أن نؤرخ للنادي بمرحلة ما قبل بيليه وما بعده، فقد سجل خلال ثمانية عشر عاما قضاها مع النادي 643 هدفًا في 656 مباراة رسمية، دون احتساب مئات الأهداف الأخرى في المباريات غير الرسمية، (سجل عبر مسيرته الرياضية 1281 هدفًا في 1363 مباراة، حسب إحصاءات الاتحاد الدولي لكرة القدم FIFA)، وحقق معه ست بطولات دوري، ولَقبَي كأس ليبارتادوريس (بطولة أمريكا الجنوبية)، وبطولتَيْ إنتركونتيننتال (نسخة سابقة من مونديال الأندية). أي أن كلا اللاعبين كان له تأثير كبير على فريقه.

يحاجج البعض بأن بيليه أفضل من ماردونا لأنه فاز بثلاث كؤوس عالم، بينما دييجو لم يفز إلا بواحدة، ولكن حتى هذه الفرضية يمكن مقارعتها من وجهة نظري بما يمكن أن أسميه حجم تأثير مارادونا في منتخب بلاده في ذلك المونديال الواحد عام 1986م، فرغم وجود لاعبين أكفاء في منتخب الأرجنتين حينها كبورتشاجا مثلا وخورخي فالدانو، إلا أنه لا يمكننا تخيّل أن الأرجنتين كانت ستفوز بالكأس لولا لعب مارادونا الخرافي. في المقابل يمكن الجزم أن البرازيل التي تتوفر على لاعبين سَحَرة أكثر من الأرجنتين كانت تستطيع الفوز بمونديالات 1958م و1962م، و1970م، حتى بدون وجود بيليه. فقد كان ديدي أفضل لاعب في مونديال 1958م وليس بيليه. وكان غارينشا أفضل لاعب في مونديال 1962م وليس “الجوهرة السوداء”. وكان جارزينهو هدافَ البرازيل في مونديال 1970م بسبعة أهداف وليس بيليه. يُعضّد هذا الرأي الهدف الرابع للبرازيل في مباراتها النهائية لهذا المونديال ضد إيطاليا الذي يمكن عَدُّه هدفًا جماعيا، فقبل أن يُسجِّل كارلوس ألبيرتو توريس الهدف لمستْ الكرة أقدام كل لاعبي البرازيل التسعة الآخرين (عدا الحارس)، وكان آخرَهم بيليه الذي هيأها بصورة مثالية لتوريس ليسجّل، وهو الهدف الذي عُدّ من أجمل أهداف كأس العالم في تاريخه. وبالمناسبة فإن صاحب هذا الهدف درّب منتخب سلطنة عُمان لكرة القدم عامَيْ 2000 و2001م.

وعلى أية حال، ظل سؤال: أيهما أفضل لاعب في التاريخ؛ بيليه أم مارادونا؟، يتردد منذ ثمانينيات القرن الماضي إلى اليوم، ولم يتوقف حتى بعد أن أجرى الفيفا استفتاء في مطلع هذه الألفية حول أفضل لاعب في القرن العشرين، إذ فاز بيليه من خلال تصويت الصحفيين والمدربين، فيما فاز مارادونا من خلال تصويت الجمهور عبر الإنترنت، فكان أن منح الفيفا اللقب للاعبَيْن معًا. لكن المُدهش هو المحبة والاحترام الشديد المتبادَل بينهما رغم هذا التنافس الظاهري، واعتراف كل منهما بقيمة وفَرادة الآخر. بحكم فارق السن بينهما والذي يبلغ عشرين عاما لم يلتقيا في الملعب قط، لكنهما التقيا في مناسبات رياضية كثيرة، كما التقيا عام 2005م في برنامج تلفزيوني كان مارادونا يقدمه لإحدى القنوات الأرجنتينية. في هذا اللقاء رقّصا الكرة برأسيهما، وعزف بيليه الجيتار وهو يغني: “من أنا يا مارادونا؟ من أنت؟ تريد أن تكون أنا، وأريد أن أكون أنت”. وهي عبارة تختزل كل تاريخ المنافسة بينهما. صحيح أن مارادونا رد في مقابلة قديمة معه على سؤال: “مارادونا أفضل من بيليه؟” بالقول: “لا. بيليه هو الأعظم، أما أنا فلاعب عادي”، وقال أيضًا في مناسبة قديمة أخرى: “أفعل ما يجعلني مارادونا ولا أحاول تقليد بيليه، أنا أعلم أنه الأفضل على الإطلاق”. لكنه مع مرور السنوات بدأ يغيّر قناعاته، ويشعر أنه هو الأفضل. فقد انتقد مثلًا تصريح بيليه لموقع “فيفا” عام 2012م بأنه وُلِد للعب كرة القدم كما وُلد بيتهوفن للموسيقى، وهو في رأيي تصريح لا غبار عليه، يعكس ثقة “الجوهرة السوداء” في نفسه ولا يسيء إلى أحد، لكن مارادونا الذي كان يدرب نادي “الوصل” الإماراتي حينها قال منتقِدًا: “لا أعلم من أين يأتي بيليه بهذه التصريحات المضحكة”، وأضاف بتهكّم: “إذا كان بيليه بيتهوفن كرة القدم، فأنا الملك جورج وروبن هود وملك كرة القدم”. بيد أن بيليه ظل أكثر دبلوماسية من مارادونا، كيف لا وهو الذي أوصلته دبلوماسيته إلى منصب وزير الرياضة في البرازيل، لكنه مع ذلك كان يعلم مكانة دييجو في هذه اللعبة: “العالم خسِر أسطورة”، قالها حزينًا بعد وفاة مارادونا مضيفًا إنه يتمنى أن يلعب معه كرة القدم في السماء.

واليوم، وقد غادر بيليه إلى العالم الآخر، فلا أحد يعلم شيئا إن كانا قد بدءا اللعِب معًا أم لا، لكن الحقيقة المؤكدة الوحيدة، أن كرة القدم ستظل تدين لهتين الأسطورتين بالكثير، فقد حولاها من مجرد لعبة، إلى فنّ ومتعة منقطعَي النظير.

– صحيفة عمان

مقالات ذات صلة