بيوت عمّان القديمة.. حكايات وشجن الأزقة العتيقة

 

بعيدا عن المشهد العمراني الباذخ الذي بات يهيمن على عمّان في الأعوام الأخيرة، والذي أفرزته كثير من الأحياء والمناطق المستجدة على الخريطة الاجتماعية للعاصمة، فإن هنالك بيوتات وأبنية معتّقة، مضى عليها زمن كانت فيه الوجه البرجوازي للمدينة، بيد أن تقادم الأعوام هوى بها من تلك الخانة إلى خانة المساكن الشعبية، ذات الإيجارات الزهيدة.
جبل عمّان. ما يزال يحتفظ بعراقته التي يعرفها كل من قَطَنَ المدينة أو حتى مرّ بها مرور الكرام. اليوم، غدا من المناطق التي يؤمّها البسطاء والعمّال، إلى جانب مالكي الأبنية الأصلاء، الذين ترك معظمهم المكان، منتقلين إلى مناطق أخرى، أو محوّلين عقارهم إلى مكان سياحي أو تراثي.
في أزقة جبل عمّان، عليك أن تمشي بحذر؛ مخافة أن تهطل على رأسك مياه الشطف من الشرفات المزيّن جلها بأصص الورد وحبال الغسيل في آن، أو أن يلتوي كاحلك وأنت تصعد الدرجات الحجرية المتآكلة بفعل تقادم الزمن.
في تلك الأزقة، تمتزج الروائح؛ الأكلات والقهوة والنباتات العطرية، كما تختلط على مسمعك الأصوات؛ إذ جارات يتحدثن عبر الشبابيك، وأطفال يتضاحكون على العتبات، ومواء قطط ألِفت المكان فصارت جزءا منه، وزقزقة عصافير تنبعث من الأقفاص الموزعة على معظم مداخل البيوت.
الماء يستقبلك بوفرة حين تلج تلك الأزقة؛ إذ “برابيش” المياه مُلقاة في جنبات كثيرة، ومياه الشطف لا تجفّ بعد حفلة التنظيف الجماعية المُقامة كل صباح، ومياه أخرى تتسلل من تحت الأصص المرويّة حد الإشباع، والتي تضفي طابع خضرة ذا فرادة خاصة، لا سيما حين يشير لك الأطفال لتنظر إلى سلاحفهم التي تركوها تتخلل المزروعات بِحُرّية.
سؤال يلحّ على زائر تلك الأزقة: بأيّ عين ينظر قاطنو المكان لهذا المشهد الذي تمتزج البساطة فيه بكثير من الأصالة والعراقة؟
أم محمد العوّاد (46 عاما) تحتمي ببابها المعدني القديم، فيما طفلها يتشبث برداء صلاتها، أثناء حديثها عن حال منزلها. تقول “سكنت هذا البيت منذ عشرين عاما. وما أحببته يوما، رغم كونه بيت عائلة أهل زوجي”.
لا تعلم أم محمد عمر بيتها بالضبط، لتردّ بضحكة ساخرة عند الإشادة بعراقته “مقدّم يختي خديه بلا إيجار”، معقّبة “مش بس داري قديمة، كمان دور أهلي كلها قديمة. بيني وبينك زهقت القديم كلّه”.
“البيت القديم يحتاج ترميما مستمرا. لا تكاد تصلح شيئا فيه، حتى يخرب شيء آخر. تصليحات ودهان وترقيع”، تقول أم محمد، مردفة “كل إشي في البيت بهرّ. الحيطان. أطراف الشبابيك والأبواب. السقف”.
أم محمد، الوالدة لأربعة أطفال والتي يعمل زوجها في محل حلويات في المطار، تقول إن شيئا لن يقنعها بالبيت “لا ترميم ولا أثاث جديدا”، ولا حتى إيجابيات للبيوت المتلاصقة كالحميمية بين الجيران، كما تقول.
ومن جهتها، تعشق أم فيصل الأسوَد تلك “اللمّة” الصباحية التي تلتئم في “حاكورة” بيتها المُعلّق بدرجات عالية جدا. تقول “تعوّدت على المكان منذ ثلاثين عاما، لكن صحتي وصحة زوجي ما عادتا تسمحان باعتلاء كل هذه الدرجات، وخصوصا في الشتاء”.
وتردف “أجمل ما في المكان أن تجتمع الجارات يوميا في منزل واحدة منا. وفقا لما أسمع فإن هذا مفتقد في العمارات الجديدة، رغم أني أتمنى السكن في واحدة منها”.
تعلل أم فيصل رغبتها الآنفة باستمرارية الصيانة للبيوت القديمة، وما يسببه ذلك من امتعاض الأبناء وثقل التكلفة المادية، مضيفة إلى ذلك عامل الازدحام، بقولها “شوارع جبل عمّان ضيقة، وحين تحوّلت بعض البيوت القديمة إلى أماكن سياحية ومطاعم فإنها تسبّبت بازدحام كبير يحرجنا مع ضيوفنا أحيانا”.
بدورها، تصرّ منى خرفان (40 عاما)، التي تقطن مع والدتها في منزل عائلتها الذي تخمّن أن تاريخه يعود لما يزيد على ثمانين عاما ذلك أنها وُلِدت فيه، على اصطحاب السائل عن حال البيت العريق إلى غرفه؛ كي يراها عن كثب.
البيت، الذي تعدّ مساحته كبيرة، وفقا لمعايير البيوت الحديثة، مؤثث بمقاعد قديمة وطاولة سفرة من الطراز القديم، ومغطاة نوافذه الكبيرة ذات القضبان الحديدية بستائر من الدانتيل الأبيض القديم، والتي تخفي كثيرا من اهتراء الجدران حولها.
البلاط، الذي تتنوع نقوشاته الزخرفية في كل غرفة، يضفي مزيدا من العراقة على البيت المطلية جدرانه المشقق بعضها باللون الأبيض. تصحبك منى للغرفة التي حوّلتها ووالدتها إلى مطبخ بخزائن فورمايكا قليلة، عوضا عن المطبخ القديم الذي كان بين مدخليّ حمّامين كبيرين.
تقول “كثيرون هم من سكنوا بيت جدي هذا، حتى أتيت ووالدتي. في الحقيقة لا يعني لنا شيئا، بل على العكس نتمنى الانتقال إلى منزل آخر أكثر حداثة”، معللة “مهما حاولت صاحبة البيت تنظيفه فلن يبدو عليه ذلك؛ إذ البيوت هذه مهترئة من كثرة الاستعمال. الرطوبة تعشش فيها وما تنظفه ربة البيت العادي في أسبوع تضطر ربة البيت القديم للقيام به يوميا”.
بيوت جبل عمّان القديمة ما عادت حكرا على العائلات المالكة لها، أو المستأجِرة، بل غدت مكان سكن لكثير من العمّال المصريين والآسيويين، الذين يجدون فيها مساحات معقولة بأسعار متواضعة، قياسا بمناطق عمّان الحديثة.
محمد رزق (22 عاما) واحد من هؤلاء العمّال المصريين الذي يقطنون المكان. يصعد الدرجات الطويلة التي تفصل باب بيته عن الشارع، رغم المرض الذي ألمّ برِجله، فمنعه من المشي السويّ. يقول “المكان كويّس. صحيح إني بتعب من السلالم الطويلة، بس الناس هنا كويّسة والإيجار كويّس؛ بدفع أنا وقرايبي التنين كل واحد عشرين دينار بس”.
من الصعب عليك أن تقنع سكّان أزقة جبل عمّان بضيق وقتك، حين يعرض كل منهم عليك مشاركته فنجان قهوته الصباحي، بإصرار. تطول بك الجولة، وتطول عليك شجون أصحاب المكان، الذين يروونها بإسهاب.

مقالات ذات صلة