قصّة الخط المستقيم في خريطة فلسطين …أحمد جميل عزم

 

تحل هذا الأسبوع الذكرى السبعون لاحتلال الجزء الأكبر من فلسطين، والأدق الجزء من فلسطين الذي احتله البريطانيون العام 1917. والواقع ما تزال قصّة رسم هذه الخريطة غائبة عن أذهان كثيرين، وتحيطها الأخطاء في كثيرٍ من الكتابات.
أول الأخطاء الشائعة، أنّ هذه حدود اتفاقية “سايكس-بيكو”، الفرنسية البريطانية، العام 1916، والصحيح أنّ الخريطة التي أقرت في تلك الاتفاقية تلغي الجزء الجنوبي من فلسطين، جنوب رفح، فيما يعرف الآن باسم قطاع غزة والنقب، وتخرجه من فلسطين، وتجعله جزءا من منطقة النفوذ البريطاني. أمّا الجزء الشمالي، فوضع تحت حماية دولية، ثلاثية، روسية، فرنسية، بريطانية. مع منح بريطانيا السيطرة على موانئ حيفا وعكا، وبرسم خط مستقيم جنوب صفد، التي ستصبح في منطقة الحكم الفرنسي، مع ما يعرف اليوم بلبنان وسورية. يمكن القول بموجب هذه الخريطة، تم تقسيم فلسطين واقتسامها أيضاً بين القوى الاستعمارية. فإذا قال البعض اليوم بدولة واحدة مع قوميتين فيها فلسطينية وإسرائيلية، فحينها قيل كيان واحد بثلاث قوى استعمارية، في أغلب أجزاء فلسطين، الموزعة حينها ضمن أكثر من منطقة إدارية عثمانية.
كان إبعاد رفح وجنوبها من الخريطة، مطلبا بريطانيا، لأنّ إنجلترا أرادت إقامة منطقة عازلة تحمي قناة السويس، التي كانت تحت سيطرتها. فلا يقترب جيش أجنبي منها من هناك، والأهم منع إنشاء سكة حديد من حيفا أو عكا إلى البحر الأحمر، في خط تجارة جديد ينافس قناة السويس، ويدخل بضائع أوروبا والعالم للجزيرة العربية والعراق وإيران، والآن تحاول حكومات إسرائيل مد مثل هذا الخط، وإذا ما نجحت خطط دونالد ترامب، في فرض حل إقليمي يُدمج إسرائيل في المنطقة، سيكون إنشاء هذا الخط على جدول الأعمال، ويحاول الإسرائيليون إغراء الصينيين ليكونوا شركاءهم في هذا الخط، في محاولة لخلق تحالف صيني-إسرائيلي.
من ضمن أهداف الصهاينة الأوائل، الذين دعموا الهجرة اليهودية لفلسطين، الاستثمار والربح من الجغرافيا، ومن أبرز هؤلاء موسى مونتفيوري، اليهودي الإنجليزي (1784-1885)، الذي اقترح خطة سكة حديد من يافا إلى العراق، بينما كان يبني المستوطنات.
عندما يظهر خط مستقيم في خريطة أي بلد، فغالبا هذا نتاج اتفاق سياسي، فليس هناك تضاريس طبيعية بخط مستقيم. وقد بدأت عملية محاولات رسم هذا الخط جنوب فلسطين، العام 1902، على الأقل، بما يشي بالتفكير الصهيوني في سيناء، التي يجري الحديث اليوم عن نقل اللاجئين الفلسطينيين لها اليوم. يومها اقترح الأب الروحي للصهيونية ثيودور هرتزل على البريطانيين، السماح لليهود باستعمار منطقة العريش وأغلب سيناء، في مصر، متعهداً أن تدافع دولة اليهود عن قناة السويس هناك، حالماً أنّ هذه الدولة ستمتد، لاحقاً لباقي فلسطين، ولكن بريطانيا رفضت الخطة.
يعود رسم الخط المستقيم الجنوبي، للعام 1906، عندما تقدمت بريطانيا عسكريا لاحتلال جنوب فلسطين، وحينها منع الجيش التركي التقدم البريطاني، ونتيجة للمفاوضات رسم الخط المستقيم، من منطقة “راس محمد” في البحر الأحمر إلى البحر الأبيض المتوسط، وكلمة راس، في الحدود البحرية، تشير لنتوء في الأرض يدخل البحر. وقد أشير لهذا الاتفاق التركي-البريطاني، في نص تحكيم الخلاف المصري الإسرائيلي على منطقة طابا، الصادر يوم 29 أيلول (سبتمبر) 1988.
عندما ظهرت اتفاقية سايكس-بيكو، كان هناك هجوم حاد عليها في الصحيفة الناطقة بالإنجليزية، في بريطانيا، واسمها فلسطين (Palestine)، ولكن المهم ذكر أنّ هذه الصحيفة كانت الناطقة باسم الحركة الصهيونية اليهودية، التي غضبت للخريطة، لأنها تريد مساحة أكبر تحت اسم فلسطين، والأهم كانت ترفض فكرة التدويل الثلاثي.
فشلت سايكس-بيكو في فلسطين، فروسيا تراجعت وعرضت على فرنسا أخذ كل فلسطين، مقابل ترك أرمينيا لها، وهو ما رفضته بريطانيا، التي قررت حسم الأمور عسكرياً. وفي ربيع العام 1917 وقعت معركة كبرى بين الأتراك والبريطانيين في مدينة غزة، أدت لمقتل الآلاف من الجهتين، وليجري احتلال كل فلسطين، مع نهاية ذلك العام، ويومها رحب العرب بالاحتلال باعتباره تحريراً من تركيا.
تُظهر قصص تشكيل خريطة فلسطين، مسؤولية القوى الاستعمارية.. ثم كيف يتغير التاريخ وتتغير الحدود.

مقالات ذات صلة