ملاحظات إضافية عن المعوّقات الخطابية

سيف الدين عبد الفتاح

حرير- اقترح الباحث عماد عبد اللطيف، بما له من باع في دراسة الخطاب وتحليله، معوقات خطابية وصلت في تعدادها إلى سبع؛ رصدها مقال سابق للكاتب، وتمثلت في حروب الكلام، وخطاب الكراهية، وفجوة المصداقية، وهيمنة خطاب الدعاية، والتمييز والإقصاء الخطابي، والخصام مع التاريخ، والاستبداد الخطابي. وهو بلا شك قد أتى على تلك المعوقات الأساسية والمفصلية التي تحيط بالخطاب الإصلاحي والنهضوي وتعلقه بعمليات التغيير؛ ونظن أنه أثبتها من دون أن يقصد أنها فقط تمثل تلك المعوقات حصرًا، ولكنها ضمن معوقات وأزمات وأمراض لحالة الخطاب النهضوي العربي. ونستطيع أن نقترح معوقات أخرى للخطاب النهضوي، وجملة من الأزمات التي تلحق به وتلاحقه، بعضها يردّ على فهم الخطاب وأهدافه، وبعضها قد يتعلق بالسمات التي ترتبط بمحتوى ذلك الخطاب، ومن تلك المعوقات والأزمات التي نذكر بها في هذا المقام:

– خطاب المتاهة؛ وهو خطابٌ، مع وجود آراء مسبقة من الأطراف التي تقوم على هذا الخطاب وإنتاجه، غير محدّد الأهداف، وغير محدّد القضايا التي تمثل مساحة للحوار؛ هذه الحالة من الغموض غالبًا ما جلبت على الحالة الخطابية أعراضًا مرضية أخرى، وهو أمرٌ يتعلق بمناسباتٍ يخرُج فيها الخطاب لتدار حوله المعارك ويتّخذ أشكالًا من الحروب الأهلية الفكرية، كما أشار إلى ذلك بعض أساتذتنا الكبار حينما توقفوا منتقدين تلك الحالة الخطابية.

– خطاب المراوحة في المكان؛ ذلك أن معظم تلك الحوارات، رغم أنها استمرّت أكثر من قرنين، إلا أن هذا الخطاب العربي حول النهوض والإصلاح لم يتمكّن من تقديم حلول لكسر هذه الحلقة المفرغة من تكرار الحوار واجتراره حول القضايا ذاتها، ولم يحدّد مناطق عُقد تلك الخطابات والإمكانات التي تتعلق بتفكيكها ليس فقط حواريًا وخطابيًا ولكن حضاريًا وإصلاحيًا. ما يتغيّر في هذا الخطاب هو الجمهور، وأطراف الخطاب التي أدمنت تلك الممارسة، فتبقى المفردات نفسها تُستخدم في الحوار والخطاب حول تلك القضايا المزمنة التي تتعلق بالإصلاح، فمتى يمكن أن تكسر تلك الحلقة المفرغة، وما هي الأدوات التي يمكن أن تدشّن وتنشط حوارًا إيجابيًا فعّالًا في الوقوف على تلك القضايا والقيام على تفكيك عُقدها، واقتراح حلول جوهرية لتجاوزها ضمن حالة بناء جديد ونهوض عتيد.

– خطاب الهوجة؛ وهو أمرٌ يتعلق بذلك الدخول الى ساحة الخطاب والحوار ممن لا يُحسن مناهج التفكير والتدبير والتغيير في ما يتعلق بتلك القضايا، سواء ذلك التجرؤ على هذه القضايا رغم صعوبتها وتعقدها أو استسهالها أو ضمن المواقف المتسرّعة والقراءات غير المعمّقة، سواء للواقع أو للأسباب المتعلقة بالقضية موضع الخطاب والحوار.

– خطاب الاستسهال والاختزال؛ وهو أمرٌ يتعلق بسابقه، إذ رغم تضمّن خطاب النهضة قضايا ذات أبعاد تخصّصية ومتطلبات فنية، إلا أنه يدخل إلى ساحة الخطاب مبدياً رأيه ضمن عملية تشويش كبرى على متن الخطاب الذي يجب أن يدور، وعلى مسائل محورية يجب أن تكون محلًا له، إلا أن عملية الاستسهال والاختزال تشكّل ديدن هؤلاء في التعامل مع مختلف القضايا ودخول ما يمكن تسميتها “حالة أبو العرّيف” إلى ساحات الخطاب، مستهينًا بطبيعته ومناهجه التي تقوم على ضبط إيقاع الخطاب للوصول إلى نتائج مناسبة.

– وترتبط بهذه الخطابات السابقة حالة خطابية أخرى، تشكّل خطابا للإغفال والاستغفال، وهو أمرٌ قد يغفل الجوانب المهمة في الخطاب وحركته، بينما يركّز على قضايا جانبية، مغفلا ما يمكن تسميتها أولويات الخطاب ومراعاتها لاستثمار الوقت والجهد ضمن حالةٍ خطابية رشيدة، وأبعد من ذلك، فقد يقوم بعضهم بعمليات استغفال ضمن تلك الخطابية، فيحاول أن يدخل على قضية موضع الحوار والخطاب قضايا أخرى تسهم في تشتيت الخطاب، وتمرير حالة من الاقتتال الخطابي، لو صحّ ذلك التعبير.

– خطاب الانفعال؛ يبدو ضمن عمليات التعبئة الأيديولوجية والمواقف المسبقة والتبنّيات الدوغمائية التي تُحدث حالة مؤاتية لخطاب انفعالي، لا يمكن أن نجني من ورائه إلا خطاباتٍ من هذا النوع الهزيل التي لا تليق بأي حال بخطاب النهضة والإصلاح والتغيير.

– ويقترن بالخطاب السابق خطاب الافتعال الذي ينجح غالبا في سحب الخطاب إلى قضايا مفتعلة، ويجيد حالة الإلهاء عن أصل القضية المركزية بافتعال جملة من القضايا المفتعلة والجانبية، والتي غالبا ما تجرّ ذلك الخطاب إلى ساحة أقرب ما تكون إلى حوار الطرشان وعدم القدرة على الخروج من تلك الحالة بأي نفعٍ يعود على الحالة الخطابية، ولو التقدّم فيها بخطوة إلى الأمام.

– وترتبط أيضا بتلك الأنواع من الخطابات خطابات تتحكّم فيها حالة الانغلاق والانسداد والأدلجة الفائضة، التي تجعل هذا الخطاب ضمن حالة جمودٍ على المواقف والمواقع تجتر الأطراف المختلفة الحجج نفسها منذ عقود، فيكون ذلك كله حالة من التلهّي بالخطاب في ذاته، من دون أن يقدّم حالة إيجابية في الحوارات حول القضايا الأساسية والمحورية.

– ويغلف ذلك كله أيضا (على إدمان الأطراف الخطابية حالة تغلب عليها) الفكر الدفاعي؛ إذ يتمركز كل طرفٍ في خنادقه، يحاول كل طرفٍ أن يتّهم الطرف الآخر لعله يصيبه في مقتل، ويحاول الطرف الآخر أن يردّ تلك الاتهامات، وصناعة اتهام جديد مولّدا إياه لحركة خطابٍ عبثيةٍ تقترن فقط بالرجوع إلى مواقع الفكر الدفاعي من دون التقدّم خطوة إلى خطابٍ بنائي يسهم في الارتقاء بخطاب النهوض والإصلاح.

– كذلك، فمن أهم أنماط الخطاب التي تشكّل عائقا لمسيرة الخطاب تلك الخطابات والحوارات خارج اعتبار السياقات التي تحيط بالحوار، إلى الدرجة التي يمكن لبعضهم أن يفرض جملة من القضايا لا تتعلّق بواقعنا أكثر مما تتعلّق بأمور ترتبط بحضاراتٍ معينة وثقافات أخرى، وهي أمورٌ تؤدّي إلى حالةٍ من حالات النزيف المستمر للخطابات المختلفة، والتي تؤثر على حالته العامة، وعلى مخرجاته ونواتجه المؤثرة في فاعلية الخطاب واستمراريته وتأثيره.

ولعلّ مثل هذه النماذج جميعا، سواء المعوقات التي أشار إليها المقال الضافي الذي كتبه عماد عبد اللطيف، فضلا عن الأشكال الخطابية الأخرى التي راكمت أزمة الخطاب واستمرار معوقاته، تبرز في أحوال كثيرة وفي مناسبات شتى، تبدو لنا الحالة الاحتجاجية التي عمّت عالمنا العربي وأقطاره المختلفة، لتشكّل ساحة لمثل هذه المعوقات، مستدعية تلك الأزمات ضمن عملية تأزيمٍ كبرى، وهو ما أدّى إلى حالة الاستقطاب العامة والاقتتال الذي لم يفرز إلا حالة من النكد الخطابي، أدت، في النهاية، إلى الانزواء للثورات ذاتها، وكذلك لطاقات التغيير التي فتحت والتي ما فتئت أن انسدّت تحت وطأة تلك الأزمات والمعوقات.

الكتابة في هذا الشأن والتنبه إليه والتذكير به لهي من المشروعات الفكرية والمعرفية المهمة في التعرّف على تلك الحالة الخطابية وعلى أزماتها، ورغم أن عبد اللطيف قد اهتم، هو وصحبه، بمثل تلك الأمراض الخطابية في أعداد مجلة خطابات ضمن ملفات مهمة تتطلب القيام بمؤلف جامع وجماعي يدرس تلك الأزمات بشواهدها، محاولا تقديم الاستجابات الفاعلة لمواجهة تلك الأزمات والتحدّيات ضمن عمل بنائي كبير، ربما لا تكفي فيه الإشارة التي سبقت أن يكون ذلك مشروعا وطنيا متجاوزا الأفراد والجماعات والفئات والتنظيمات والأيديولوجيات، وربما الاستجابة الخطابية الفاعلة تحتاج توفّر شروط وسياقات، آن الآوان لأن تكون محلا لتشييدها وترسيخ بنياتها المؤاتية.

مقالات ذات صلة