مرض أميركي مُستدام

محمود الريماوي

حرير- يضمّ مخيم جنين، الذي يقع جنوب المدينة التي يحمل اسمها، عدداً من السكّان يناهز ثلاثين ألف نسمة. ويتحدّر هؤلاء من قرى جنين التي جرى احتلالها عام 1948 وتهجيرهم منها بمناسبة قيام الدولة الإسرائيلية على أرض فلسطين، كما يضم سكاناً يتحدّرون من حيفا ومن منطقة الكرمل، وبما يجعل هذا المخيّم على مقربةٍ جغرافيةٍ وعاطفيةٍ من المناطق التي يتحدّر منها سكّانه. وبقليلٍ من الفطنة والنزاهة، كان يمكن “التخلّص” من المخيّم ومن “مشكلته” بتمكين سكّانه من العودة إلى المناطق التي يتحدّرون منها. وبحيث يكون حلّ هذه المشكلة نموذجاً معيارياً لحل مشكلة بقيّة المخيمات على أرض فلسطين الانتدابية وفي الشتات. وبذلك، تنتفي الحاجة إلى خدمات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، غير أنّ للديمقراطي المُسن جو بايدن، الذي عاصر تداعيات النكبة الفلسطينية، رأيٌ آخر، فهو انطلاقا من فخره بصهيونيته أكثر من فخره بأميركيته، يرى أن لإسرائيل النووية الحقّ في الدفاع عن نفسها ضد “خطر” المخيم، من دون أن يسأل نفسه: ماذا تفعل إسرائيل في جنين وبيت لحم ونابلس وأريحا؟ وإذا كان لإسرائيل الحقّ في الدفاع عن نفسها في جنين، حسب تفوّهات إدارته، فأين يمكن أن يتموضع حقّ الفلسطيينيين في الدفاع عن أنفسهم وأرضهم؟ ألم يتحدّث الرجل مراراً عن ترتيبات متكافئة لإرساء الأمن والكرامة بين الإسرائيليين والفلسطينيين؟ أم تُراه يكذب، وهو في أواخر السبعينات من عمره، ويسعى إلى ذرّ الرماد في العيون؟ للأسف، يبدو كذلك، فقد استغلّ جريمة اجتياح المخيم وتشريد عائلاته كي يضفي شرعية رخيصة على الاحتلال الإسرائيلي، خالطاً، بصورة متعمّدة، بين الدولة الإسرائيلية في حدودها لعام 1967 واحتلال جنين وبقية مدن الضفة الغربية وبلداتها وأراضيها، واصفاً هذه المناطق الأخيرة بأنها مناطق إسرائيل التي يحقّ لها الدفاع عن نفسها، فيما لا ينسحب حقّ الدفاع عن النفس على الطرف الآخر. وبهذا، يجتمع الوقار مع انعدام النزاهة، لدى الرجل الذي بات يشكو من زلاّتٍ في التفكير وفي الضمير، لا من زلاّتٍ في التعبير فحسب.

وبينما عمدت إدارة بايدن في محطّاتٍ عديدة إلى التأشير على خلافات بينها وبين حكومة أقصى اليمين في تل أبيب، فقد كشف رئيس هذه الحكومة، نتنياهو، أنه أطلع مسبقا واشنطن على خطّته لاجتياح مخيم جنين، ونال على ذلك ضوءاً أخضر، وهو ما استوجب توجيه الشكر من طرفه إلى إدارة بايدن على موقفها الإيجابي نحوه ونحو حكومته. بهذا، بات جليّا إن اجتياح المخيم وتهديم أجزاء واسعة منه قد جرى برعاية واشنطن، وبما يكشف عن حدود الخلافات ومضمونها بين الطرفين، حيث تكتفي واشنطن بالتعامل مع اليمين المتطرّف بقيادة نتنياهو، فيما تتحفّظ على سلوك اليمين الأشدّ تطرّفا، ممثلاً بإيتمار بن غفير وبتسلئيل سيموريتش. وبهذا تتكشّف التفاهة السياسية في أجلى صورة، إذ إن الفوارق بين نتنياهو ووزيريه طفيفة جدا وتكاد لا تُرى.

أعاد اقتراب حمّى الترشيحات للانتخابات الرئاسية الأميركية بايدن نحو بيت الطاعة، وذلك في متواليةٍ متكرّرة للرؤساء الأميركيين الذين يجدون في الامتثال للرؤى الصهيونية والتماهي معها ما يمنحهم فرصة للفوز في السباق الانتخابي، مع التقليل من أثر أية عوامل داخلية أخرى ترجّح فرص الفوز، فبايدن الديمقراطي يصمّ أذنيه عن توجّهات القاعدة الشابة وعن جموع الليبراليين و”اليساريين” في الحزب، ممن ينحون نحو تحقيق العدالة للفلسطينيين، ويستلهم بدلاً من ذلك أسوأ نماذج الانحياز الهستيري لدولة الاحتلال، كنموذج سلفه الجمهوري دونالد ترامب، وهو ما يفسّر اندفاع الإدارة الحالية لاستئناف ما بدأته الإدارة السابقة من إبرام اتفاقيات تطبيعية عربية رسمية مع تل أبيب، حيث تبذل إدارة بايدن كل ما تملك يمينها لإنجاز تطبيع سعودي إسرائيلي بدلا من إبرام سلام شامل وفق المبادرة العربية. وقد تتكشّف قريبا فصول التمهيد للتطبيع بين كل من الصومال وجزر القمر مع دولة الاحتلال، ودور العراب الأميركي فيها، فليس هناك من مهمة مقدّسة لدى النخبة النافذة والدولة العميقة في واشنطن تُضاهي التذلل لإسرائيل وتلبية طلباتها، وهو ما يصحّ وصفه بمرض سياسي أميركي مستدام، ما كان له انعكاسات سلبية على أمن الشرق الأوسط عقودا. وما زالت هذه التداعيات السلبية مستمرّة، وذلك مع الدعم المتواصل لدولة الفصل العنصري في تل أبيب رغم الكلام الأميركي المعسول عن حلّ الدولتين، إذ يدلّ واقع الحال على أن واشنطن تدعم بقوة أولئك الذي يقوّضون هذا الحل في تل أبيب، فيما يجرى التعامل بعنجهية مفرطة وكراهية ظاهرة مع من يؤمنون بهذا الحل، بما يكشف تهافت الخطاب السياسي حيال هذه المسالة.

نتوجّه بالنقد إلى واشنطن، مع الإدراك أن الخلل يبدأ في العمق العربي الرسمي لفلسطين، حيث لم تهتز العلاقات العربية الإسرائيلية قيد شعرة على وقع الاجتياح الدموي، ويكمن في جمود السلطة الفلسطينية وانعدام ديناميتها وانطفاء حركتها، وفي الحسابات الفئوية للسلطة الأخرى في غزّة، وهو ما يدركه بصورةٍ أفضل، وعلى نحو حسّي، الرازحون تحت الاحتلال الذين يجترحون مقاومة بطولية عالية الكلفة، بعد أن سدّت في وجوههم الأبواب، وبعد أن أمعن العدو في لصوصيّته وتوحشه. وهكذا أسهمت أطرافٌ قريبةٌ وبعيدةٌ من ساحة الصراع، بوسائل سلبية شتى، في وصول الأمور إلى ما وصلت إليه من خياراتٍ صفريةٍ تنذر بالأقسى في مُقبل الأيام.

 

مقالات ذات صلة