Ctrl+z هل تعيد الزمن… سليمان المعمري

ليس للموت قواعد صارمة. ففي زمن كورونا يمكن أن يموت المرء لسبب يبدو لأول وهلة أسهل بكثير من هذا الفيروس. مثلًا لمجرد أنه يمارس رياضة الجري في الهواء الطلق فتصدمه دراجة هوائية، (نعم، هوائية وليست نارية) فيسقط رأسُه على حجر ضخم ليصاب بنزيف في الدماغ.
قبل أسبوعين فقط، كان أحمد الحسني يحدثنا عن مارادونا الذي يرى أن أحد أسباب شهرته هو اسمه الجذاب. كان حزينا كغيره من الملايين الذين أحبوا هذا اللاعب الساحر على رحيله المفاجئ، ويستذكر هدفه الشهير الذي سجله باليد واحتسبه الحكم التونسي. ولم يكن يدري أحمد أنه سيتبعه بعد أيام قليلة فقط قبل أن يكمل عامه الحادي والخمسين.
لكن طفولته – مع ذلك- لا تذكّره بمارادونا، بل ببيليه ومحمد علي كلاي، اللذين كان يظن – مع أطفال آخرين – أنهما ليسا بشرين عاديَيْن، وإنما يمتلكان بعض الخوارق والمعجزات. كان يعتقد مثلًا أن كلاي يمكن أن يغوص تحت ناقلة النفط التي يشاهدها كل يوم أمامه ويخرج من الجهة الأخرى، أما بيليه فقد كان يتوهم –كما كثيرين سواه- أنه أسرع رجل في العالم لدرجة أن بعض أجزاء جسمه مركبة من حديد، وأن قوة تسديدته على المرمى قادرة من فرط قوتها على اختراق بطن حارس المرمى والخروج من ظهره!. “يا للسحر”! هكذا يصرخ الطفل بداخله.
لكن أحمد عندما سيكبر ويشب عن الطوق سوف لن يؤمن بالسحر ولا بالشعوذة، بل إنه سيمارس سخريته اللاذعة على من يؤمن بهما. تساءل مرةً وهو يستذكر كيف أن مشعوذًا إفريقيًا أوهم كثيرين من السذج بأنه يستطيع توليد ورقة نقود من فئة خمسين ريالًا: “لا أعرف ما الذي يجعل البعض يصدقون هذه الادعاءات والمزاعم؟ هل هو الجهل بالشيء أم عدم المعرفة أم هو التدين المغشوش يسوقهم لتصديق هؤلاء المدعين؟!”. عندما يؤمن أحمد برأي فإنه لا يخشى إظهاره على الملأ وبلا تحفظ، حتى وإن كان صادمًا لبعض من يتلقاه. ولهذا كنتُ أحبه. لقد كان يشبه نفسه تماما، فليس له رأيٌ في السر يختلف عن رأيه المُعلن. كما أنه لم يكن يكتفي بإبداء الرأي، وإنما يعضده – لكي يكون مقنعًا- بحكاية عاشها أو قرأها أو سمعها، ولهذا كان حديثه لا يُمَل. إن أردتُ اختصاره في كلمتين سأقول إنه “حَكّاء ماهر”. حتى الأخبار التي كانت حياتَه ومصدر رزقه (كونه عمل نحو عشرين عاما “محرر أخبار” في إذاعة سلطنة عُمان حتى تقاعده قبل أشهر قليلة فقط) لم يكن يكتفي بتلقيها، وإنما يحللها ويستكشف ما وراء سطورها من أسرار وحكايات يسردها كمن يروي حكاية مشوقة.
حكايات وحكايات تستقر في مكان خفي من رأس أحمد، ولا يجد أي صعوبة في استدعائها وقت الحاجة. حكايات تشي ليس فقط بتجاربه الغنية في الحياة، ولكن أيضًا بقوة ذاكرته، ومهارة التقاطاته، وعمق تحليلاته، حتى إننا طالبناه مرة –نحن زملاءه الذين لمسنا هذه المهارة- أن يوظف هذه المعلومات والتحليلات في مقالات أو نصوص منشورة بدلًا من الاكتفاء برميها في النقاشات العادية أو رسائل الواتسب. مرةً اعترض على كلام أحد زملائنا المتدينين عندما ربط وجود الأخلاق لدى الإنسان بمدى تدينه. قال أحمد إن الدين لا يمنح الأخلاق للأفراد ولا الجماعات وإنما يدعو لها والتمسك بها، كما إنه لا يُكسِبها لهم بالوراثة أكثر من صقلها لهم ونحتها في العقول، فالأخلاق والاحترام ظواهر طبيعية بشرية، واللصوصية والانتهازية والسب والقذف توجد في الجميع، ولكن الدين هو الذي يحد منها. ولكي يدلل على هذه الرؤية روى لنا حكاية سباق ماراثون في إسبانيا عندما كان أحد المتسابقين متقدمًا في السباق بمسافة مريحة، ثم حدث أن ضل الطريق، وعندما عاد إلى مسار السباق بعدما أضاع عدة دقائق ثمينة كان صاحب المركز الثاني قد تقدمه بمسافة كبيرة. لكن هذا الأخير ما إن رأى نفسه مقتربًا من خط النهاية حتى تعمّد أن يتباطأ ليفسح المجال لصاحب المركز الأول للتقدم. وعندما سئل عن فعله هذا أجاب أن زميله هو من يستحق المركز الأول، لأن تراجعه في السباق لم يكن عن ضعف أو تراخٍ، وإنما لأنه أخطأ المسار. يعلق أحمد على هذه الحكاية بالقول :”هذه هي الأخلاق”.
ولأنه كان يؤمن بأن الأخلاق أمر إنساني في المقام الأول، فقد كان ينتقد بعض المتعصبين من الذين “يعتقدون أن الله لم يهدِ سواهم” على حد تعبير ابن سينا، وأنهم وحدهم المسلمون الحقيقيون وهم أحفاد الصحابة وأبناء من هاجر مع النبي وهم من يمثل الإسلام الحق والصحيح .. إلخ، أما بقية الجماعات المسلمة فليس أفرادها إلا “شذاذ آفاق” وعالة على الإسلام والمسلمين على حد سواء.
كان أحمد قبل ثلاثين عاما منسقًا بمكتب مدير البرامج في الإذاعة، وظل سنوات في هذه الوظيفة دون أن يتذمر منها أو يتشكى. ولا أدري هل كانت صدفة أم أمرًا مخططا له انتقاله بعد ذلك إلى دائرة الأخبار في الإذاعة، إلا أن المؤكد أن هذا القرار كان حكيمًا ومناسِبا لقدرات وثقافة الحسني، وشغفه بمتابعة الأخبار وتحليلها. سيصبح بعدها صديقًا يوميًا لجهاز الكومبيوتر الذي يُطلعه على أخبار الدنيا وحكاياتها، وسيرافقه هذا الجهاز أحيانًا حتى في أحلامه. يروي مثلًا أنه ذات حُلم أضاع شيئًا ما، أو طريقا ما، وفي محاولته للعودة إليه وقع في روعه أنه لو عثر على جهاز كيبورد وضغط على زرّي العودة Ctrl+z فسيعثر على هذا الشيء أو الطريق لا محالة. يومها ضحكنا –نحن زملاءه- من هذا الحلم الطريف، ولم يدر في خلدنا أنه سيأتي علينا يوم نحلم فيه يقِظِين بهذين الزِرّين، لا لشيء إلا لنستعيد أحمد وضحكاته ومناقشاته ومشاكساته وصخبه الجميل الذي لطالما ملأنا بالحياة.

مقالات ذات صلة