غزوة جريئة… فهد خيطان
لم يتغير الوضع عما كان عليه قبل سبعين أو ثمانين عاما، هو التطور التكنولوجي فقط فرض استبدال الخيل والليل والسيف في الغزوات بأدوات حديثة؛ سيارات دفع رباعي وأسلحة رشاشة وأتوماتيكية في وضح النهار.
غزوة كسائر الغزوات في تاريخ الاقتتال القبلي؛ مئات الغزاة يقتحمون مضارب الأعداء ويسيطرون على الشوارع ويطلقون الرصاص في كل الاتجاهات. قبلها كانت مجموعة تغير على شخص أعزل في الشارع وتوسعه ضربا وقتلا تحت عنوان حديث وعصري “البلطجة”.
عقود طويلة من حكم الدولة والقانون، لم تتمكن من هزيمة عقلية الغزوات والثأر العشائري. ثقافة ما تزال ضاربة في العمق، نعود إليها كلما حانت الفرصة، وبحماس منقطع النظير.
ربما تكون الجهات المعنية بفرض القانون قد تأخرت في اتخاذ إجراءات سريعة للقبض على المتورطين في الاعتداء على الشاب الفايز، بدليل تسليم ثلاثة منهم بعد “غزوة جرينة” بساعات. لكن أيا تكن الملابسات، فاللجوء إلى سلطة القبيلة ووضعها في مقابل سلطة القانون، ينطوي على قدر كبير من التحدي لهيبة الدولة وسيادتها.
لقد بذلت في السنوات الأخيرة جهود كبيرة لتفعيل سيادة القانون، واتخذت إجراءات تؤكد جدية الدولة في هذا التوجه، غير أن الاستجابة الميدانية ما تزال ضعيفة، ناهيك عن حالة الاستعصاء الاجتماعي التي تعيق بشكل واضح قدرة مؤسسات القانون على ممارسة دورها.
ومرد هذا الوضع ليس تقصير الأجهزة المعنية، إنما السياق العام للمجتمع وعلاقاته الكلية مع الدولة. لا يمكن لسلطة القانون أن تكسر هيمنة السلطة العشائرية في القضايا الأمنية، في الوقت نفسه الذي تبقى فيه المحاصصات العشائرية والمناطقية هي المسيطرة على منظومة التشريعات السياسية، وتشكيل الحكومات وتقاسم المناصب العليا. إن من يدقق في علاقة مجلس النواب مع السلطة التنفيذية سيلحظ الطابع الزبائني الذي يحكمها، والروابط المنفعية التي تسيرها.
مفهوم الحقوق بالدستور تراجع لصالح مفهوم رعوي هو الحصص. التنمية صارت حصصا توزع على المناطق وفق اعتبارت جهوية وحسابات عشائرية، لإرضاء أصحاب النفوذ والجاه. المقاعد النيابية هي الأخرى مجرد حصص في القانون لا حقوق تحكمها معايير منصفة. والأمر ذاته ينسحب على الوظائف العليا والخدمات العامة.
وفي مرحلة لاحقة تحولت المحاصصة إلى حقوق مكتسبة، فأصاب التشوه النظام العام للبلاد، وكان على مؤسسات عصرية أن تكيف نفسها مع استحقاقات ثقافة ما قبل الدولة.
إن التحديات التي تواجهها الحكومة اليوم في سعيها لإنجاز متطلبات الإصلاح الإداري تعود في جوهرها لمأزق بنيوي متأصل. فالموظف العام يعد الوظيفة التي يشغلها حصة له ولعشيرته من بعده، وليس حقا تترتب عليه واجبات ومسؤوليات. وليس غريبا في مثل هذا الحال أن يهب نواب العشيرة وسادتها للدفاع عن موظف عمومي إذا ما تعرض للعقاب أو الفصل أو اتهم بالفساد.
حتى مفهوم الولاء تعرض هو الآخر للتشويه في الممارسة، فصار من حق الموالي للدولة وعرشها، وهو في الأساس واجب دستوري على كل مواطن، أن يتحدى سلطة القانون ثمنا لهذا الولاء.
سنعبر التداعيات القائمة لحادثة جرينة في محافظة مادبا، لكنها مناسبة لتأمل الصورة العامة بكل أبعادها.