المقاومة الفلسطينية صانعة متغيّراً تاريخياً

حاتم رشيد

حرير- كان للحملة العسكرية النوعية التي نفّذتها المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر/تشرين الأول فاعلية متغيّر تاريخي على الصعيد العالمي، فقد تجاوزت تأثيراتها وتداعياتها جغرافية الصراع الفلسطينية، متعدّية إطارها العربي إلى الدوائر الدولية المركزية. وبلغ رد الفعل الإسرائيلي الانتقامي الوحشي حد الابادة الجماعية، ودماراً لا سابق له في تاريخ الحروب المعاصرة. وامتد الصراع ليشمل لبنان والعراق واليمن، مع مشاركة أميركية مباشرة في القتال، علاوة على تزويد إسرائيل بالسلاح والدعم السياسي المطلق.

نجحت المقاومة بفرض القضية الفلسطينية على رأس جدول الأعمال الإقليمي والدولي، وليس أدلّ على ذلك من الانخراط الأميركي اليومي في تفاصيل الصراع على أعلى مستويات الإدارة الأميركية، رئيسا ووزراء وقادة عسكريين. وكما هي المأساة عادة بمنظور الخبرة التاريخية، ألقت هذه المأساة أثقالها المروّعة في غزّة، لكنها اشتملت أيضا على مضمون إيجابي نسبي.

ورغم هول الدمار والتضحيات، ثمّة متغيّرات إيجابية تصبّ في مصلحة الشعب الفلسطيني، ولعل أبرزها استعادة التعاطف الشعبي العربي والتحوّل الإيجابي في الرأي العام الدولي، والأهم التحوّل في مواقف دول عديدة في أوروبا الغربية، وأبرزها إسبانيا وبلجيكا وأيرلندا والنرويج، وحتى في الولايات المتحدة، لم يعد التأييد الأعمى لإسرائيل من المسلّمات للجيل الأميركي الشاب. وتمكن ملاحظة الإجماع الدولي بتبنّي حلّ الدولتين الذي يتضمّن دولة فلسطينية. ومن الصحيح أن هذا الإجماع ليس جديداً، لكن الجديد قوة الحراك بهذا الاتجاه وتعاظم الإصرار لتحويله إلى حقيقة ملموسة.

الولايات المتحدة تحديدا، وهي الدولة المؤثرة على إسرائيل، لا تعرف حدودا لهذه الدولة الفلسطينية، لكنها أعلنتها مسبقا دولة منزوعة السلاح، مع تفضيل دور مركزي للسلطة الفلسطينية لقيادة الدولة المأمولة شريطة إعادة بناء السلطة وفق التصور الأميركي. ومن نافلة القول إن التوجّه الأميركي يرى المصلحة الإسرائيلية أولا عبر إدامة وجود الدولة اليهودية مع ضمان ديمومة تفوّقها العسكري، ويرى ترتيب الإقليم بما يضمن تأكيد الهيمنة، وتحجيم حضور القوى الدولية المنافسة.

من المهم التأكيد أن الاهتمام المحموم بحلّ الدولتين لا يعني أن ترجمته العملية باتت وشيكة التطبيق. ومع أن الاحتمالات باتت أكبر مما كانت، إلا أن الملفّ قد يُطوى مجدّدا مع فقدان المأساة الإنسانية في غزّة زخمها وحضورها الدرامي. لا يعني حلّ الدولتين الحل العادل المستدام لقضية الشعب الفلسطيني، ولكنه خطوة إيجابية كبرى باتجاه تفكيك المشروع الصهيوني.

الدولة الفلسطينية التي تعد بها واشنطن بغير سيادة، وهي دولة مأوى بما يساوي القول إنها ملجأ إنساني للشعب الفلسطيني، تحت الحراسة المشدّدة لقوى دولية وإقليمية، لتسكين الصراع وحذفه أبديا بوصفه أزمة متجدّدة. الدولة ليست منزوعة السلاح فحسب، بل منزوعة العقل والذاكرة، تقرّ بالسردية الصهيونية للصراع، ويعهد إليها بتربية شعبها وتثيقيفه بالرواية الصهيونية للغزو الاستيطاني ببعد وتبرير دينيين وتاريخيين مزعومين ومفتعلين، وبالضرورة، مقبولة من إسرائيل التي قد تعمد إلى تسويفٍ يمتدّ سنوات.

وفي كل الاحتمالات، أحد أهم الاستنتاجات أن القضية الفلسطينية ستظلّ قائمة بقوة كيفما كانت نتائج جولة الصراع الحالية، وما يعنيه هذا من استمرار معاناة الشعب الفلسطيني. لذا، من واجبات قواه الفاعلة أن ترتب أولوياتها العاجلة ومهامها الأبعد مدى.

الأولوية الملحّة تحديد الهدف الآني الأكثر قابلية للتحقيق، وهو دولة فلسطينية تحفظ للشعب الفلسطيني حقّه في الحياة في وطنه التاريخي، وتحول دون تشريدٍ متجدّدٍ لما بقي منه في وطنه، خصوصاً في قطاع غزّة والضفة الغربية، وتشكل قاعدته الارتكازية لمتابعة مسيرته الممتدّة لاستعادة وطنه التاريخي، وترسيخ هويته الوطنية النضالية، ولتكون ذخيرته في ما يلي من مراحل كفاحه الوطني. لكن المحظور الجوهري ألا يتعارض حلّ الدولتين مع الحلّ التاريخي والاستراتيجية العملية التي يكمن في القلب منها تفكيك الأيديولوجيا العنصرية الظلامية التوراتية ودحرها. ومع التأكيد المتكرّرعلى حدود عام 1967، يجدر التذكير بأن الشرعية الدولية تتجاوز هذه الحدود وفق قراري الجمعية العامة للأمم المتحدة 181و194.

ولتحقيق الهدف المرحلي، تفرض الأولوية الملحّة الآنية استعادة منظمة التحرير الفلسطينية إطاراً وطنياً جامعاً يضم كل قوى المقاومة، خصوصا حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وهذه أولوية تمليها الضرورة الظرفية لحماية قوة المقاومة وفصائلها التي تواجه تهديدا حقيقيا بالحصار والتصفية. وهنا من المهم التنبّه إلى توخّي الحذر من المبالغة العاطفية الرغبوية والانطلاق من وعي المنتصر والتخلي عن الحذر والموضوعية في تشخيص صعوبة المعركة الراهنة وتعقيدها. وقد صنع الشعب الفلسطيني في غزّة بطولة أسطورية بحقّ، لكن البطولة لا تعني بالضرورة الانتصار.

وبموازة ذلك، يُعمل على تكوين رابطة وطنية مؤسّسية مستدامة تنظم قوى الشعب الفلسطيني وتؤطّره في كل أماكن وجوده، من دون أن يعني نشوء حركة وطنية موازية، بل حركة وطنية مدنية داعمة ومساندة، تستثمر القدرات والكفاءات الوطنية، وتقدّم رؤية جذرية شمولية لتسوية تاريخية مستدامة للقضية الفلسطينية، تتمسّك بحق العودة، وتقوم على مبدأ تفكيك الكيان الصهيوني باتجاه دولة واحدة تستعيد الوحدة التاريخية لفلسطين، ليعيش فيها العرب واليهود ممن ينبذون الصهيونية.

مقالات ذات صلة