أن تستعيد فلسطينيّتك وتقاوم إلغاءها

أسامة أبو ارشيد

حرير- ترتبط العلاقة بين الإنسان والأرض، في جانب أساسي منها، بمسألتَي الهوية والانتماء. وعندما يُحرم الإنسان من أرضه ويُمنع من وطنه يقع عنده خللٌ في تجسيد المسألتين. وبالتالي تكون هويته ملتبسة وانتماؤه غير متبلور المعالم. ولعل الفلسطينيين من أكثر الشعوب التي خبرت محاولات طمس الهوية وتشويهها، وذلك بعدما تمَّ اقتلاعهم، قبل أزيد من 75 عاماً، من أرضهم وتهجيرهم، سواء خارج حدود فلسطين التاريخية أم داخلها، من أجل إفساح المجال لقيام دولة إسرائيل بشعب مدّعى جُمِعَ شعثه من شتى أصقاع الأرض. اليوم، يعيش قرابة نصف الشعب الفلسطيني، البالغ 14 مليوناً و300 ألف نسمة، حتى نهاية العام الماضي (2022)، حسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، في الشتات، في حين يقيم مثلهم في فلسطين التاريخية، في الضفة الغربية وقطاع غزّة وفلسطين المحتلة عام 1948. لكن، حتى هؤلاء الذين ما زالوا داخل حدود فلسطين التاريخية ليس كلهم يعيشون في قراهم وبلداتهم ومدنهم الأصيلة، فمن أصل خمسة ملايين وأربعمائة ألف فلسطيني في الضفة الغربية (بما في ذلك القدس) وقطاع غزّة، هناك مليونا لاجئ على الأقل. وحتى فلسطينيو 48، من حملة الجنسية الإسرائيلية، وعددهم مليون و700 ألف نسمة، بينهم كثيرون لا يعيشون على أرضهم أو في منازلهم، إذ تعرّضوا هم الآخرون لعمليات تهجير واقتلاع. ولا يخفى أن ذلك كله كان، ولا يزال، يجري ضمن خطّة صهيونية ممنهجة، تتضمّن تغيير أسماء مدن وبلدات وقرى، حتى تُعَسِّرَ على الفلسطيني اللاجئ إيجاد نقطة ارتكاز تمكّنه من التعبير عن هويته وصياغة انتمائه.

كغيري من الملايين من اللاجئين الفلسطينيين، لم تطأ قدماي يوماً، حتى الأسبوع الماضي، أرض فلسطين ولم تتعدَّ معرفتي بالقرية التي تنحدر عائلتي منها ما أسمعه من والدي وعمّي، وهما مَن هُجّرا طفلين صغيرين، وما أقرأه عنها. كان ارتباطي بالهوية الفلسطينية، كما ملايين آخرون مثلي، عاطفة وشوقاً وشغفاً بالشعور بالانتماء الأصيل إلى مكان، فضلاً عن حنقٍ على وجود احتلال بغيض جاثم في بلادي، ولا يوفر من عدوانه من بقي من أبناء شعبي في فلسطين التاريخية ولا حتى الإقليم كله. حتى الجنسية الأميركية التي أحملها منذ عام 2017 لم تمكّني من زيارة الأرض التي أنتمي إليها، فبسبب نشاطي السياسي لمصلحة الحقوق الفلسطينية في الولايات المتحدة وُضعت عام 2015 على قوائم الاستهداف الإسرائيلي، عبر ما تسمّى وزارة الشؤون الاستراتيجية التي أنشئت عام 2009 بغرضٍ أساسي قوامه التصدّي لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) على الدولة العبرية على خلفية احتلالها وقمعها الفلسطينيين وتمثلها لنظام أبارتهايد مكتمل الأركان.

وبسبب سعي إسرائيل التي تملك نفوذاً هائلاً في واشنطن أن تدرج ضمن الدول التي يُعفى مواطنوها من التأشيرة لدخول الولايات المتحدة، ولكوني أحد الذين يقودون حملة مضادّة لذلك أتيحت لي فرصة نادرة أن أحاول دخول فلسطين قبل أيام. أنشئ برنامج الإعفاء من التأشيرة أميركياً (VWP) عام 1986، وهناك 40 دولة، معظمها أوروبية، مستفيدة منه، بحيث يسمح لمواطنيها بدخول الولايات المتحدة والبقاء فيها لأغراض الزيارة الخاصة والعمل 90 يوماً. الشرط الأساسي لهذه الميزة هو التبادلية والمعاملة بالمثل. يشمل مفهوم التبادلية والمعاملة بالمثل معاملة المواطنين الأميركيين، بغض النظر عن خلفياتهم العرقية والدينية والسياسية، على أرضية المساواة التامة. ومعلوم أن إسرائيل لا تنظر إلى المواطنين الأميركيين سواسية، إذ تميّز وتسيء معاملة الأميركيين من أصول فلسطينية، ويمتد ذلك إلى العرب والمسلمين الأميركيين، وهي لا تستثني من سياساتها التمييزية أي مواطن أميركي ناقد لها، حتى لو كان يهودياً. من أجل ذلك، واجهت إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، عقباتٍ في إدراج إسرائيل في برنامج الإعفاء من تأشيرات الدخول، وكذلك إدارة جو بايدن الحالية.

ولكن، يبدو أن حكومة بنيامين نتنياهو مصرّة هذه المرة على تمتع مواطنيها بميزة الإعفاء من تأشيرات الدخول إلى الولايات المتحدة، وهو الأمر الذي ترغب به إدارة بايدن أيضاً. ومن ثمَّ وقّع الطرفان “مذكّرة تفاهم” في منتصف الشهر الماضي (يوليو/ تموز) تنص على وضع إسرائيل ضمن فترة تجريبية حتى آخر الشهر المقبل (سبتمبر/ أيلول) قبل إصدار قرار أميركي نهائي بهذا الشأن. عارضنا، وما زلنا، نحن الناشطين لفلسطين في الولايات المتحدة، هذا الإجراء، وعقدنا اجتماعاتٍ عدة مع مسؤولين في وزارتي الخارجية ووزارة الأمن القومي، وعبرنا عن مخاوفنا من أن إسرائيل لن تلتزم بمقتضيات القوانين الأميركية، أو أنها ستتحايل عليها. كما أبدينا اعتراضنا على بنود في المذكّرة، كالذي ينص على أن من حقّ إسرائيل رفض قبول دخول مواطنين أميركيين على أساس “مخاوف أمنية مشروعة”، وهو الأمر الذي دائماً ما أساءت إسرائيل استخدامه بحيث يشمل أي ناقد لسياساتها المخالفة للقانون الدولي، بما في ذلك يهود أميركيون. أيضاً، عارضنا، وما زلنا، القيود الإسرائيلية ضد المواطنين الأميركيين الراغبين في زيارة قطاع غزة، الذي يخضع لحصار جائر منذ عام 2007. هذا غيض من فيض. ومع أننا نجحنا في وضع إسرائيل تحت مجاهر الرصد، فإننا لم نوفّق في وأد المشروع، على الأقل حتى اللحظة.

ضمن هذا السياق، ناقشت ومجموعة من الناشطين الأميركيين لمصلحة الحقوق الفلسطينية فكرة أن يختبر من هو مثلي مدى جدّية إسرائيل والتزامها بالقوانين الأميركية حتى تكون مؤهلة لدخول برنامج الإعفاء من التأشيرة. لن أنكر أني كنت قلقاً، خصوصاً وأن مواطنين أميركيين كثيرين تمَّ إرجاعهم وإساءة معاملتهم على الحدود، مع أن أغلبهم ليس له نشاط سياسي معروف. أيضاً، في حواراتنا مع المسؤولين الأميركيين كان هناك تثبيط ضمني ومبطّن من محاولة اختبار البرنامج. على أي حال، عزمتُ، وزميلة لي في العمل، على القيام بهذه التجربة، وهي بمثابة مغامرة في حالتي، ذلك أن سلطات الحدود الإسرائيلية حققت من قبل مع أقارب لي من حمَلة الجنسية الأميركية عني وعن نشاطي في الولايات المتحدة. ورغم أنه كان من الواضح أن الإسرائيليين يعرفون من أنا وسبب قدومي، وذلك من خلال أسئلتهم، إلا أني، بفضل الله، تمكّنت من دخول فلسطين المحتلة (يبدو لتجنب إعطائنا ذخيرة ضمن محاولاتنا تعويق جهود دخول إسرائيل برنامج الإعفاء من التأشيرات) من معبر الشيخ حسين بين الأردن والدولة العبرية، حيث قضيت خمسة أيام زرت فيها بعض مدن فلسطين الداخل، بما في ذلك قرية نورس في قضاء جنين، التي أنحدر منها واحتلت عام 1948، وكذلك بعض قرى الضفة الغربية ومدنها.

ليس الهدف من هذه السطور الاستغراق في تفاصيل قصة شخصية، ولكن عندما وقفت عند نورس التي جرى مسحُها بالكامل، وأقيم مكانها “كيبوتز” يهودي صغير باسم “نوريت”، تذكّرت تعبيراً لصديق لي عاش التجربة قبلي، حيث قال إن شعورا متناقضا انتابه عندما زار فلسطين، إذ حين ظن أنه استعاد هويته الفلسطينية أحسَّ مباشرةً بأنه تمَّ إلغاؤه منها. كان هذا شعوري تماماً، وأنا أقف على أرض نورس، بجانب الموقع الذي كان بيتنا قائماً عليه، حسب وصف والدي، ولكنه غير موجود اليوم، وآثار قريتي التي أزيلت ولم يبق منها إلا بعض أطلال، في حين تقوم على أنقاضها فلل فارهة لغرباء يرمقونني بقلقٍ على أنني أنا الغريب الذي يصوّر ويوثق ما يحسبونه ملكاً لهم! ليس هذا فحسب، فمجرّد أن تختبر بنفسك كيف يعيش الفلسطينيون في القدس تحت وطأة احتلال غاشم، ومستوطنين أقرب إلى العصابات الإجرامية، تُدرك حجم المعاناة التي يكابدونها، والصمود الذي يسطّرونه في آن، والذي من خلاله يحفظون حقوق بقية الشعب الفلسطيني، بل وكذلك العرب والمسلمين والمسيحيين في مقدّساتهم. ينطبق الأمر على الفلسطينيين في الضفة الغربية، الذين يكابدون الأمرّين تحت حصار الاحتلال ونهبه أراضيهم، ولا أستثني هنا قصة صمود فلسطينيي 48 أمام مخطّطات الأسرلة وإفشالها. أما قطاع غزة الذي لم تتح لي زيارته، فإن صفحات صموده وبطولاته لا تحتاج شهادة من هو مثلي. ورغم الواقع الفلسطيني الأليم، لم يزل الأمل يتجدّد. أربعة أجيال منذ النكبة، ولا يزال الأمل قائماً، بل هو يتجدّد ويزداد شباباً، حتى التحرير الموعود بإذن الله.

مقالات ذات صلة