الأردنيون وقانون الجرائم الإلكترونية

مهند مبيضين

حرير- صادق الملك عبد الله الثاني، على قانون الجرائم الإلكترونية الذي أقرّه مجلس الأمة الأردني (النواب والأعيان) بعد أن وافق مجلس النواب على تعديلات من الأعيان طاولته، وأعطت خيار الغرامة والحبس للقضاء أو بكلتا العقوبتين، كما خفّضت تعديلات الأعيان الغرامة المالية على جرم اغتيال الشخصية من 50 ألف دينار إلى 20 ألف دينار حداً أعلى.

وفي أثناء نقاش الأعيان القانون، أعاد العين مصطفى حمارنه التذكير برأي عالم الاجتماع والفيلسوف الألماني ماكس فيبر (1864 – 1920) في المرحلة الانتقالية في التحوّل الديمقراطي، والتي حذّر من طول أمدها، وأن هذا الطول يزيد الأمور تعقيدا، وقال حمارنه: “إننا نعيش مرحلة انتقالية ديمقراطية منذ العام 1989، وإنها مرحلة طالت”، وقد تعرّضت لإصابات كثيرة، وكان أولها قانون الصوت الواحد للناخب.

كان رأي الحمارنه السياسي ذا مرجعية علمية بحتة لرجلٍ يصنّف ليبراليا وداعية إصلاح، وليس بوصفه جزءا من كتلة معارضة داخل المجلس، كما أحب بعض الأعيان توصيف آرائهم المختلفة مع مؤيدي القانون، فالتقليد في الأردن يقضي بأن لا معارضة في مجلسٍ يعيّن الملك أعضاءه، وإنما قد تكون هناك آراء ترجّح الحكمة أو تختلف أيهما أكثر قدرةً على ترشيد قرارات النواب. وقول الحمارنه، وتوجيه الحديث إلى رئيس الحكومة، يذكّران بنصّ لماكس فيبر في محاضرتين ألقاهما العام 1919 عن العلم والسياسة بوصفهما حرفة، نُشر نصّاهما بترجمة رائعة لجورج كتّوره عام 2011. ولعلّ الحديث عن السياسة هو المهم اليوم؛ لأن فيبر كتب نصّه في مرحلة كانت ألمانيا فيها على مفترق طرق، كانت في حضيض الهزيمة. وفي عام 1919، تأسس الاتحاد الطلابي الألماني، وكانت قرارات التقسيم للشرق والهيمنة البريطانية الفرنسية بعد الحرب الكونية الأولى تنسج خيوطها وترسم شكل المنطقة، وكان الشرق العربي والشمال الأفريقي أول أشكال تلك القسمة الغربية التي فكّكت الرجل المريض.

في الحالة الأردنية الراهنة، من المهم الإفادة من تجربة السجال التداولي في حالة قانون الجرائم الإلكترونية الذي أقرّ، لا بوصفه سببا في ترشيد المجتمع وتداول المعلومات، بل بوصفه تجربة غنيّة في أنها أعادت الاعتبار لحضور العلم في النقاش السياسي الوطني، بحيث تقدّم الحلول وتطبخ القرارات بالاستناد لآراء العلم الذي هو كثير ومتقدّم في الأردن، لكنه لا ينعكس على الحلول في مواجهة التحديات، وقد كانت تجربة أزمة كورونا درسا للحكومات التي لم تجد إلا علماء الجامعات وأساتذتها والمراكز البحثية كي تواجه الأزمة بالمعرفة، وكان جزء كبير في نجاح الأردن في مواجهتها بالاعتماد على علماء وجزء آخر على إدارة الأزمات.

يمكن للتجربة السجالية التي رافقت قانون الجرائم الإلكترونية قبل مصادقة الملك عليه أن تعيد دور المجتمع المدني ليأخذ مكانته في إثارة الجدل وتقديم البدائل في حالات من مثل: تقييم وضع التعليم العالي والثانوية العامة والحكم المحلي ومشكلات العطاءات ومشاريع التنمية وسياسات النقل والخدمات الصحّية وغيرها، لا بوصفها معضلات راسخة، بل في كونها إشكالات ناتجة عن صعوبة تجاوز الواقع الذي يصعب تغييره بسبب العقليات التي تأبى التحديث والتغيير، وبسبب تحاشي غضب الجمهور وفي تغييب المعرفة والعلم عن التخطيط.

لا يتطلّب الأمر استقدام أساتذة جامعات لغرفتي التشريع في مجلس الأمة، بل في إعطاء قيمة للمعرفة لتسهم في تغيير المجتمع والقرارات ومشاريع القوانين، فلدى الأكاديميين طموحاتٌ كافيةٌ لبلوغ المواقع العامة، وهو بات يتوفّر عبر العلاقات والتمثيل الجهوي، لكن المهم كيف تستفيد الحكومات من رأي العلم في مشاريعها المقدّمة للمجتمع. مثلا مشروع المدينة الجديدة لم يخضع لرأي أساتذة الجغرافيا السكانية ومن هو متخصّص في إدارة المدن الذكية، وهذا علم لا يمكن إزاحته جانبا عند التفكير في بناء مناطق حضرية جديدة. وهناك أمثلة أخرى عديدة يمكن الاستشهاد بها، مثلا إدارة التأمينات الصحية وسياسات النقل ومشاريع الطرق التنموية وغيرها، ولذلك كله أصحاب اختصاص علمي في الجامعات، لكنهم محيّدون ومبعدون.

صحيحٌ أن السياسة حرفة، لكن رجل التنفيذ الأول/ الوزير في الحكومة لا بد له من رأيٍ علمي، وكما أن السياسة حرفة، ولديها شروط مختلفة عن حرفة العلم، فإن الآراء العلمية هي التي حلت معضلة الدول التي أرادت تجاوز واقعها وتحدياته وتعقيدات الانتقال نحو آفاق جديدة.

لكن السؤال الذي ينبغي طرحه: لماذا لم يدافع عموم الأردنيين عن حرّيتهم في مسائل عارضة تحدُث في حياتهم، ويبقى السجال بشأنها في دائرة النخب، وينتهي السياق التداولي للحرّيات في إطار الإجابات المؤجّلة أو مؤسسات المجتمع المدني وتدخّل السفارات، كما حدث مع قانون الجرائم الإلكترونية؟ لعلّ الأمر هنا يتعلق بالمقاربات الممكنة لتحديث المجتمع وتعميق النزعة الليبرالية وإحلال مفاهيم جديدة في المجتمع والدفع بالمجتمع المدني ومؤسّساته بديلا موضوعيا أو طرفا يجلس على طاولة الحوار، ويقدّم البدائل الممكنة للحكومات نائبا عن الشعب، في مواجهة المطروح والمقدّم من الحكومات، ويحدُث هذا كله في ظل تراجع الثقة في النواب شعبياً.

كشف سياق قانون الجرائم الإلكترونية عن ضعف في اللعبة الديمقراطية الأردنية، حيث خسر مجلس النواب مزيدا من صورته، على الرغم من أهمية القانون لضبط المجال الرقمي الإعلامي. ورغم أن حجّة المجلس أن التشريعات الضابطة لا مجال فيها للشعبية السياسية، فإن ما تبدّى في مناقشة مجلس الأعيان، والمفروض أنه ذو أغلبية محافظة، قد سمح بظهور تفاوتٍ في الآراء حيال القانون لإيجاد أمل بالـتأثير في قرارات الحكومات وتشريعات النواب.

على صعيد القوى السياسية، حذّرت جماعة الإخوان المسلمين في تصريحات لأقطابها من تداعيات القانون، باعتبار أنه سوف يعيد الشارع إلى صيرورة الاحتجاج الشعبي التي عاشها الأردن في الحقبة التي تلت العام 2011. لكن ذلك لم يحدُث، وعمليا هو غير قابل للحدوث في إثر قانون الجرائم الإلكترونية، لكنه يمكن أن يحدُث ضد سياسات حكومية تطاول المعاش والحياة اليومية، كرفع الأسعار مثلاً.

ليس الأمر أيضا متصلا بقدرة النخب على التغيير هنا. بل في العودة إلى السؤال الأول، لماذا لم يتحرّك الأردنيون بشكل منظّم في مواجهة القضايا العامة، ولا يسعون إلى التأثير بشكل فاعل، ويبقى الأمر في عهدة مؤسسات المجتمع المدني أو النقابات أو الأحزاب، وهو أمر لم يحدُث عمليا إلا في ظل حكومة هاني الملقي وما سمّي اعتصام الدوار الرابع (قرب مقرّ رئاسة الوزراء)، والذي ظهر لاحقًا أنه اعتصام أدارته أكثر من جهة، حتى اعتصام سائقي الشاحنات قبل عامين لم يتحوّل إلى تضامن شعبي عام.

لا يحبّ الأردنيون أن يكون عليهم أوصياء في السياسة، وأدرك قسم كبير من الشارع أن هناك حاجة لضبط التداول الإعلامي على منصّات التواصل الاجتماعي، وأن هناك انفلاتا وسعيا إلى فرض واقع قلق على الأردن واتهام وتشكيك، طاول كل النخب، كما طاول العائلة المالكة، وهو أمر غير مقبول. وهناك من رأى أن المعركة ضد القانون موجهة من بعض مؤسسات المجتمع المدني التي يبدو أن تحرّك السفارة الأميركية المحذّر من كلفة القانون كان بفعل علاقةٍ متبادلةٍ بين الطرفين، وهناك جزء عريض من الأردنيين غير معنيٍّ بهذا كله، ومنسحب من أي مواجهة مع الحكومة ومعنيٌّ بمعاشه وقوته اليومي.

مع ذلك، تتطلب الأحكام الخاصة بتفسير الحالة الأردنية ومواقف الأطراف مجتمعة من قانون الجرائم الإلكترونية تقسيماً يعتمد مبدأ العلم ودراسة سيكولوجيا النخب والجمهور، وتقييماً لكل حالات الغموض والحيرة أو التأييد أو الرفض للقانون من جانب، والمقايضات التي حصلت من جانب آخر. وللأسف، في مثل حالة كهذه، فإن الكفايات العالية لأصحاب الخبرات تتناقص إلى درجة التلاشي وانعدام الـتأثير في ترشيد القوانين وتحسين مسار السياسات العامة.

مقالات ذات صلة