العرب التائهون والتحوّلات الدولية

رفيق عبد السلام

حرير- لقد غدا من المسلّم به عند الجميع أن الوضع الدولي يمرّ بتحوّلات كبرى ومخاضات عسيرة، لها علاماتها وارتساماتها الواضحة في أكثر من موقع في العالم، ولعلّ شراسة الحرب الروسية الأوكرانية وما لازمها من اصطفافاتٍ دوليةٍ ساخنة ومعارك بالوكالة باردة، تعطينا صورة كاشفة لهذا المشهد بالغ التركيب والتعقيد. ورغم تلك المقولة التي راجت طويلا منذ تسعينيات القرن الماضي، ومفادها بأننا قد دخلنا مرحلة القطبية الأحادية أو ما سمّي تجاوزا بالعهد الأميركي، إلا أنها لم تصمُد كثيرا أمام معطيات واقع دولي يسير نحو مزيد من التنافسية الحادّة. والحقيقة أن نظام الأحادية القطبية يتناقض، في جوهره، مع طبيعة (وبنية) العلاقات الدولية التي لا يمكن أن تركن، في نهاية المطاف، لقوة واحدة موحّدة مهما كانت قدراتها وحجم سطوتها، وتقديري أن حالة التعّددية هذه أو ما أسماه الخبير البريطاني في العلاقات الدولية، باري بوزان، نظام اللاقطبية، أي غياب المركز التحكّمي في منظومة العلاقات الدولية، ليست شيئا طارئا أو جديدا خلال السنوات الأخيرة، بل تعود بداياتها إلى سنوات نهاية الحرب الباردة.

المفارقة العجيبة أن السنوات الأولى التي أعلن فيها المحافظون الجدد بقدرٍ كبيرٍ من الزهو ما أسموه دخول القرن الأميركي الجديد، كانت هي نفسها السنوات التي بدأ يتخلّق فيها نظام دولي تنافسي، وإن كان بصورة خافتة، ذلك أن إصرار الأميركيين على فرض قواعد جديدة في العلاقات الدولية، بما يعطيهم حقّ التدخل في الوقت والمكان المناسبين، تحت عنوان الضربات الاستباقية، وفي تجاهل كامل للأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي، وفي تنكّر صريح لمفهوم الردع المتبادل الذي استقرّت عليه بنية العلاقات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، قد أشعر بقية القوى الدولية بأنها مهدّدة في مصالحها للصميم. ذهب في ظنّ المحافظين الجدد أن التدخّلات العسكرية الأميركية بعد أحداث “11 سبتمبر” (2001) في أفغانستان، ثم في العراق، ستدشّن فعليا مرحلة التتويج الأميركي بلا منازع، وقد أرادوا من خلالها توجيه رسائل إلى الأعداء والأصدقاء على السواء، ملخصها أن لا أحد بمقدوره من اليوم تحدّي القوة الأميركية من دون أن يتم قصم ظهره بالتهديد العسكري والحصار الاقتصادي وغيرهما، ولكن ما حدث كان مخالفا تماما كل هذه التوقّعات والحسابات، حيث لم تمنح هذه التدخّلات ما كان يرغب فيه الأميركيون من سطوة عالمية، بقدرٍ أشعر بقية القوى بالخطر على وجودها، وأيقظ فيها الرغبة في الدفاع عن نفسها وحماية مصالحها.

كان الخروج المذلّ من العراق، وأخيرا الانسحاب الفوضوي من أفغانستان، تجسيدا عمليا لتورّط القوة الأميركية في الرمال المتحرّكة لما أسمته الشرق الأوسط الكبير، وقد تم ذلك تحت ضغط الاجندة الإسرائيلية التي كانت تدفع الأميركيون نحو خيارات خاطئة وخوض معارك نيابة عنها في مواقع جغرافية لا تمثل تحدّيا جدّيا من الناحية العسكرية الاستراتيجية، فما هو الخطر العسكري الذي كان يمثله صدّام حسين المنهك بحصار بالغ القسوة، والذي كان يكابد من أجل توفير المواد الأساسية لشعبه أصلا؟ وما الخطر العسكري الذي تمثله حركة طالبان الغارقة في عزلتها بكهوف أفغانستان وجباله الوعرة؟

أعطت هذه الأخطاء الأميركية القاتلة فرصة للروس لالتقاط أنفاسهم وإعادة بناء قوّتهم العسكرية بعدما كانوا يقفون على حافّة الانهيار، كما أتاحت للصينيين مراكمة مكاسبهم، ومن ذلك ضمان تطوّر سريع في مجالات التسلّح والتكنولوجيا العالية مع تمدّد اقتصادي غير مسبوق، مستفيدين من اقتصاد السوق والانفتاح الخارجي، هذا في وقتٍ كان الجيش الأميركي يتوغّل في فيافي العراق وأفغانستان.

ما إن استفاق الأميركيون في حقبة الرئيس أوباما من هول صدمتهم، مع ظهور نذر هزيمة عسكرية واضحة هناك، حتى وجدوا أنفسهم محاصرين بوضع دولي يستعصي على إعادة الضبط والتحكّم. باتت روسيا أكثر تمرّدا والصين أكثر قوة اقتصادية وعسكرية وأشدّ تصميما على إثبات نفسها قوة كبرى وطامحة للمنافسة.

أما اليوم فقد غدا من المسلّم به عند الجميع، بما في ذلك الأميركيون أنفسهم، أننا إزاء وضع دولي بالغ الشراسة والتنافسية، بما يذكّر بأجواء ما قبل الحرب العالمية الأولى، حيث كانت القوى الأوروبية تتصارع فيما بينها من دون وجود قواعد ضابطة أو رجحان كفّة أيٍّ منها بصورة كاملة، بما فسح المجال أمام حالة فوضوية مهّدت الأرضية للحرب العالمية الأولى. طبعا، كانت الولايات المتحدة وستظل القوة الأولى، ربما لعقود مقبلة، ولكنها باتت اللاعب الأكبر من بين لاعبين آخرين لا غير، خصوصا مع التآكل التدريجي لمراكز التحكّم في العواصم الغربية وانتقال جزء كبير من الثروة ومقدّرات القوة والابتكار العلمي إلى فضاء الشرق الأقصى.

مما لا غرو فيه أن هذا الوضع التعدّدي يتيح، وفق دينامياته الداخلية، مجال حركة أوسع ومساحة مبادرة أكبر لمختلف اللاعبين الدوليين والإقليميين على السواء، بل حتى بالنسبة للدول صغيرة الحجم، وقد استفادت فعلا الدول من هذه المعادلة الجديدة على نحو أو آخر. الهنود واليابانيون مثلا يستثمرون في حاجة الأميركيين لهم لكبح جماح الصين الصاعدة، فتراهم ينتزعون أكثر ما يمكن من المنافع لصالحهم. البرازيليون، ومع عودة لولا دي سلفا، يتحرّكون في اتجاهات متنوّعة وفق تخطيط مسبق، الإيرانيون يتمدّدون في الفراغات التي تركها انسحاب الأميركيين وانشغال العرب بمعاركهم، والأتراك يستفيدون بقدر كبير من الذكاء من حاجة الأوروبيين والروس والأميركيين لهم، فيفتكون أكثر ما يمكن من المنافع والمكاسب بفتح خطوطهم على الجميع. العرب وحدهم تائهون غائبون في هذه المعادلة الدولية الجديدة، لأنهم، بكل بساطة، لا يملكون رؤية أو مشروعا للحاضر أو المستقبل. لقد ابتليت هذه الرقعة من العالم بنخب حكم فاقدة للوعي السياسي والحسّ الاستراتيجي، ولا همّ لها غير مراكمة السلطة والنفوذ وتأبيد الجمود.

هذه الأوضاع الدولية، وبالمواصفات التي تحدثنا عنها أعلاه، كان من الممكن أن تعطي العربً فرصة ذهبية لافتكاك بعض المكاسب لصالحهم، فتعزّز فاعليتهم الفردية والجماعية، وتدفعهم إلى ملء الفراغات الناتجة عن الانسحاب الغربي من أراضيهم، في إطارٍ من توافق “الحد الأدنى” وتفاهمات عقلانية مع الجوار الإقليمي، ولكن ما حصل هو التحرّك في الاتجاه المعاكس، بل إمعان السير في طريق التيه والضياع.

لقد أتاحت ثورات الربيع العربي سانحة تاريخية أمام العرب لترميم أوضاعهم الداخلية وإعادة بناء قاعدة إجماع عام فيما بينهم، تحفظ مصالحهم وكيانهم الجمعي، ولكن ما حصل أن النظام الرسمي العربي تحرّك، بدوافع غريزة الحياة والموت، لتخريب هذه الثورات والانقضاض عليها، فاستجمع طاقته من أجل التخريب بدل البناء، وعمل على تغذية الصراعات والحروب الداخلية بدل بناء التوافقات. ورّطوا مصر في انقلاب عسكري أدخلها في أزمةٍ حالكةٍ أفقدتها دورها في المحيط العربي والإقليمي، وأوقعوا اليمن في أتون حربٍ أهليةٍ ما زالت نيرانها ملتهبة، ودفعوا ليبيا في حرب داخلية مدمّرة ما زالت تعاني من مخلفاتها وتتهدّدها بالتقسيم، وهم اليوم يلقون بالسودان في قلب حربٍ داخلية لا نهاية لها.

الحلقة المفقودة في المشهد الإقليمي اليوم هم العرب وحدهم، رغم أن محيطهم مساعد على تعافيهم وتدارك ضعفهم، فتركيا التي كانت تدير ظهرها للعرب وتناصبهم العداء هي اليوم على استعداد لتقاسم المنافع والمصالح معهم بما يحقّق حاجات الطرفين، وإيران نفسها التي استثمرت الفراغات السياسية في المنطقة هي اليوم مرهقة بتدخّلاتها ومشكلاتها الداخلية، بما يدفعها إلى عقد مصالحاتٍ تاريخية مع العرب على قاعدة تقاسم المنافع في فضاء الشرق الإسلامي. كل قوى المنطقة تحتاج إلى العرب في المال والاستثمار والاستقرار وكل شيء، بقدر ما يحتاجون إليها هم لحماية مصالحهم وتحصين أمنهم الجماعي. ولكن مشكلة النظام الرسمي العربي أنه يسير وفق منهج خاطئ، يقوم على تفجير صراعاتٍ داخلية وصناعة أعداء وهميين، بل هو مستعدٌّ أن يدمّر نفسه من أجل هذه الخيارات الخاطئة.

الانسحاب الأميركي من المنطقة، سواء من العراق وسورية والخليج وأفغانستان ولّد فراغا كبيرا، ولكن الذي ملأه هو الإرهاب والروس والصينيون والإيرانيون والأتراك والإسرائيليون وغيرهم، والعرب وحدهم غائبون عن أرضهم، فهم يتضامنون اليوم حول هدف واحد ووحيد: منع الإصلاح والتغيير كيفما كان شكله ولونه، وحينما يبحثون عن حلفاء جُدد أو حتى تغيير تحالفاتهم التقليدية، فليس من أجل الدفاع عن قضاياهم العادلة ومصالحهم الكبرى، بل من أجل تأبيد واقع القمع وخنق شعوبهم لا غير. مقولة السيادة تغيب من المشهد أو تكاد، ولا يتم استخدامها إلا حينما يتعلق الأمر بقضايا الحريات واحترام الحد الأدنى من حقوق الناس وكرامتهم، وكأن لسان حالهم يقول “دعونا نفتك بمواطنينا فنسجنهم ونعذبهم ونقتلهم ونفعل بهم ما نشاء، لأن السيادة الوطنية تعطينا الشرعية الكاملة في ذلك”. أنظروا قيس سعيّد مثلا كيف يستقبل رئيسة وزراء إيطاليا اليمينية المتطرّفة، جورجيا ميلوني، لتحقيق أجندتها الخاصة في موضوع الهجرة، ولا حديث هنا عن السيادة الوطنية أو التدخّلات الخارجية، بيننا حينما تطالبه منظمات حقوقية دولية بالكفّ عن محاكمة معارضيه وتوظيف القضاء بصورة تعسّفية يزبد ويرغي ويرفع لافتة السيادة الوطنية ومقاومة التدخلات الخارجية.

الخلاصة هنا عرب اليوم التائهون في التاريخ، والمغيبون عن الجغرافية، هم الداء والدواء، هم أسباب أزمات المنطقة ومشكلاتها، وهم مفتاح الحل، إن أرادوا ذلك لأنفسهم ولغيرهم.

مقالات ذات صلة