ليس هناك “رواية فلسطينية” و”رواية إسرائيلية”

حرير- كان على مؤتمر “الاستشراق والرواية الفلسطينية”، الذي انعقد في رام الله (16 ديسمبر/ كانون الأول الجاري)، برعاية وزارة الثقافة الفلسطينية، أن يتنبّه إلى خطل ترديد مقولة “الرواية الفلسطينية”، أو “السردية الفلسطينية”. أن تكون هناك “رواية فلسطينية” حول مشروع الاستعمار والإحلال الاستيطاني في فلسطين، وتاريخها، وسيرورة ماضيَيها، القريب والبعيد، يعني تقبّلاً على نحو غير مباشر، واعٍ أو غير واعٍ، لوجود “رواية صهيونية” أو “سردية صهيونية” منافسة. كأنّنا هنا أمام قصّة خلافية في التاريخ والحاضر يرويها تفسيران، كل منهما يؤوّل الأحداث وفق ما تراه مصالحه السياسية، ولتعزيز أهداف لها علاقة بحقٍّ “متنازع” عليه في الوقت الراهن.

التعبير الصحيح والأكثر دقّة، والواجب تبنّيه في الخطاب الفلسطيني، وفي الخطابين، العربي والعالمي، المؤيدين لفلسطين، هو: ليس هناك روايتان بشأن فلسطين، هناك رواية واحدة اسمُها “الرواية الحقيقية عن فلسطين”، وهناك روايات زائفة ومفبركة، سياسية ودينية وليست تاريخية. لا ينطلق هذا الكلام من موقع عاطفي ومنحاز، بل يتموضع في قلب التحليل التاريخي والموضوعي المُثبَت بالأدلة والشواهد. الأسس الواهية التي تقوم عليها روايات الصهيونية، ومن يؤيّدونها، المُزيَّفة تنقسم بين مجموعتَيْن: دينية أسطورية قديمة، وسياسية (إمبريالية) حديثة.

العمود الفقري لما هو ديني وأسطوري ما تسمّى “الرواية التوراتية” حول فلسطين وما جاورها، ومنطقها استيلاد تاريخ لفلسطين واليهود والمنطقة من خلال النصوص التوراتية وقصصها وخرافاتها. تعتمد هذه “الرواية” على ما ورد في تلك النصوص من وصف للأماكن والناس والرحلات والأحداث و”وعود الربّ” بمنح هذه الأرض لليهود. يسمّى هذا التاريخ “التاريخ التوراتي” (Biblical history) ولا يُعتدُّ به في أوساط معظم المؤرّخين الرصينين في العالم، وليس بديلاً من “التاريخ الحقيقي”. وترى غالبية المؤرّخين أن النصوص الدينية هدفها نشر الأديان، وتقديم الصور الرمزية، والحثّ على مجموعة من القيم والالتزام بها، أحياناً بإيراد قصص تُروى لمغزاها، وليس بهدف تقديمها تاريخاً تفصيلياً حقيقياً وقعت أحداثه بالفعل.

في المقابل، ما يُعتدُّ به ويُعتبر التاريخَ المُثبَت، هو ما يعتمد على الأدلة والشواهد والحفريات والآثار والألواح القديمة والنصوص المكتوبة التي تُسلسل تواريخ المجموعات البشرية، وحديثاً أضيف إلى ذلك كلّه علم الجينات والبصمات الوراثية (الممنوع في إسرائيل!)، وما ينتج من ذلك كلّه هو “التاريخ الحقيقي”. “التاريخ التوراتي” هو أساس ما يقوم عليه المشروع الصهيوني وإقامة دولة يهودية في فلسطين، وأساس تفكير المسيحيين الإنجيليين الذين سبق ظهورهم ودعوتهم إلى “إعادة” يهود العالم إلى فلسطين ظهور الصهيونية بأكثر من قرن على أقلّ تقدير. المكوّنات الأساسية لهذا التاريخ تتضمّن؛ وعد الربّ اليهود منحهم أرض فلسطين، التي تمتدّ من الفرات إلى النيل؛ وأن اليهود أقاموا مملكة داوُد في القدس؛ وأن الهيكل بُني في القدس وهُدم مرَّتَيْن ويجب إعادة بنائه؛ وخروج اليهود من مصر “عائدين” إلى فلسطين عبر سيناء وشرق الأردن؛ وغزو البلاد المُقدَّسة بقيادة يهوشع وهزيمة الكنعانيين وتدميرهم وإبادتهم؛ وأخيراً، وليس آخراً، أن اليهود يشكّلون عِرقاً نقياً، وليس ديناً يُتبع فقط.

في أواخر الألفية الماضية، وبعد عقود مضنية من البحث الآثاري والأركيولوجي في طول فلسطين والقدس وعرضهما، فجّر عميد علماء الآثار الإسرائيليين، زئييف هرتسوغ، معبد التاريخ التوراتي من داخله، وقال: “بعد سبعين عاماً من الحفريات المكثفة في أرض فلسطين، توصل علماء الآثار إلى نتيجة مخيفة، لم يكن هناك شيء على الإطلاق (ممّا ترويه التوراة)، حكايات الآباء مجرّد أساطير، لم نصعد من مصر (exodus)، لم نحتلّ فلسطين، ولا ذكرَ لمملكتَي داوُد وسليمان”. “وغالباً أن العالم كلّه، لا مواطني إسرائيل وأبناء الشعب اليهودي وحدهم سيذهلون لسماع الحقائق التي باتت معروفةً لعلماء الآثار الذين يتولّون الحفريات في أرض إسرائيل (فلسطين) منذ مدّة من الزمن”.

قبل اعتراف هرتسوغ المثير تصدّى كثيرون من المؤرّخين البريطانيين والأميركيين، أهمهم كيث وايتلام وتوماس تومسون ووليام ديفر، لتفكيك “التاريخ التوراتي” ودحضوا فكرة وجود الهيكل من أساسه، وهو إحدى الأساطير التكوينية المركزية في الفكرة الصهيونية الدينية. واتفق هؤلاء وغيرهم على أن هدف بناء سردية دينية يهودية في فلسطين أيديولوجي، ولا يُعدُّ تاريخاً موثوقاً، والمراد منه تسويغ الفكرة الصهيونية وإقامة دولة يهودية في فلسطين. ولم يعثر أحد على أيّ شواهد آثارية تثبت أسطورة عبور سيناء وسوى ذلك. برغم ذلك كلّه، انتقلت المقولات التوراتية المذكورة أعلاه، وغيرها كثير، من النصوص التوراتية إلى كتب التاريخ، وعُوملت نصوصاً تاريخية غير قابلة للشكّ. واحتلت التوراة وقصصها مناهج التاريخ وكتبه، وشكّلت الجانب الديني لما تُسمّى “الرواية الصهيونية”، أو بالأحرى الرواية المُفبرَكة.

الجانب الثاني المُؤسِّس لهذه الرواية هو السياسة الإمبريالية الحديثة، منذ تصريح بلفور 1917. عندما يريد الخطاب الصهيوني توظيف لغة القانون الدولي، فإنه يعود إلى ذلك التصريح الذي دفعت به بريطانيا والقوى الغربية ليصبح متضمّناً في صكّ الانتداب الذي اعتمدته عصبة الأمم حول فلسطين سنة 1922. تجاوز نصّ ذلك الصكّ المُجرِم تفويض بريطانيا بالسيطرة على فلسطين، بعد احتلالها العسكري، إلى “واجبها” في تسهيل “إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين” الذين لم تتجاوز نسبتهم من السكّان 10% آنذاك برغم الهجرات المتواصلة من أوروبا.

فشلت عصبة الأمم تلك وحُلّتْ، ومع ذلك يقول الخطاب الصهيوني إن صكّ الانتداب وما تضمّنه يمثّل الأساس القانوني الأول للكيان العبري. تلا ذلك، في الأسس القانونية للخطاب الصهيوني السياسي، قرار التقسيم الذي أقرّته الأمم المتحدة عام 1947. كلا القرارَين رعته القوى الغربية المسيطرة على العالم على الضدّ من رغبة أهل البلاد الأصليين وحقوقهم التاريخية المتواصلة فيها.

من ناحية موضوعية بحتة، لعبت عصبة الأمم، والأمم المتحدة من بعدها، دور المُشرّع القانوني لأكبر جريمة سرقة وطن وأرض في القرن العشرين. وتشكّل القرارات الظالمة الصادرة عن هاتَين المؤسّستَين مكوّنات من “التاريخ الحقيقي” يكشف أبعادَ الجريمة وعمقها، عوضاً عن أن يشكّل أساساً سياسياً وقانونياً للرواية الصهيونية المُفبرَكة المُتَّكئة على صلافة القوة والغصب وتناقض أبسط قيم العدالة وحقوق الإنسان.

ليس هناك “رواية صهيونية” تقف على أرضية تنافسية مع “الرواية الحقيقية” لفلسطين. هناك تجميع لخرافات دينية مع قرارات سياسية إمبريالية مجرمة، كلّها يقوّضها التاريخ الموضوعي المُنصِف ويضرب بها عُرْض الحائط، وآن لنا أن نستخدم لفظاً ومعنى مقولة “الرواية الحقيقية لفلسطين”.

مقالات ذات صلة