من أوكرانيا إلى السودان: وصفات السلام السيئ

د. مدى الفاتح

حرير- يعارض الأوروبيون رؤية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لإحلال السلام في أوكرانيا. هذه المعارضة تسببت في تدهور العلاقة بين الطرفين، وفي اعتبار ترامب أن أحد أسباب استمرار الحرب هو الدعم الأوروبي لأوكرانيا، الذي يشجع بدوره الرئيس زيلينسكي على التشدد ورفض الجلوس إلى التفاوض.

في الوقت الذي كان فيه ترامب يقابل نظيره الروسي فلاديمير بوتين، ويحاول أن يصل معه إلى شكل من أشكال الاتفاق، كانت أوروبا تصعد أكثر، ما وصل الأسبوع الماضي حد الاتفاق على تجميد أصول البنك المركزي الروسي إلى أجل غير مسمى. هذه الخطوة، التي تنقل العقوبات الاقتصادية على روسيا لمستوى أبعد، تمهد للاستحواذ على أموال تقدر بـ78 مليار جنيه إسترليني بذريعة تعويض الأضرار الأوكرانية.

وجهة النظر الأمريكية، المرفوضة من قبل الأوروبيين، مبنية على القاعدة التي تقول إن إحلال السلام ووقف نزيف الدماء والموارد مقدم على كل ما سواه، وإن كان الثمن هو تنازل أوكرانيا عن بعض أراضيها. الأمريكيون يفكرون في تحويل الحرب الأوكرانية إلى فرصة، فبعد تحقيق السلام واعتماد وقف إطلاق النار، يمكن إطلاق الكثير من المشاريع الرابحة، كما يمكن التوسع في استغلال الموارد الأوكرانية، وهو ما لن تمانع فيه كييف، التي ستكون في حاجة إلى الشراكات الدولية والدعم المالي. في مقابل هذه النظرة فإن الأوروبيين، وبسبب كونهم أقرب جغرافيا لدرجة الوقوع ضمن النطاق الحيوي لروسيا، يفكرون بشكل مختلف، ويرون أنه إذا تمت شرعنة التمدد الروسي في أراضي أوكرانية جديدة، كما تمت شرعنة الاستيلاء على جزيرة القرم من قبل، فإن ذلك قد يشجع روسيا على محاولة الوصول إلى كييف خلال السنوات المقبلة، بل ربما تتشجع إلى المضي إلى ما هو أبعد.

الخطورة بالنسبة للأوروبيين لا تكمن في مجرد الخشية من سقوط أوكرانيا بيد الروس، وإنما لأن هذا إن حدث، فإنه قد يمثل تهديدا للدول الأوروبية نفسها، حيث لا يعلم أحد أين يتوقف الطموح الروسي، بل إن أغلب المحللين الأوروبيين يقولون، إن ذلك لن يكون سوى البداية قبل التوجه إلى أوروبا. هذا القلق نجد صداه بشكل واضح في تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي يتعامل مع المسألة الأوكرانية كمسألة أمن قومي، كما نجد هذه الأفكار أيضا لدى المستشار الألماني فريدريش ميرتس، الذي عبّر عن قناعته في تصريح أخير قائلا، إن بوتين عازم على تغيير الحدود الأوروبية. بهذا الموقف المؤسس على مخاوف مشروعة، الذي يعتبر أن الاتجاه إلى السلام في هذا التوقيت، الذي تتعرض فيه أوكرانيا لهجمات ساحقة تجبر جيشها على التراجع وعلى التنازل عن نقاط استراتيجية، فإن الأوروبيين يعتبرون أن التفاوض سوف يعني بالضرورة الضغط على أوكرانيا للاستسلام والخضوع. يشبه هذا دعوات وضع السلاح، أو الدعوة لوقف إطلاق النار، التي تحمل في ظاهرها معاني إنسانية، لكنها لا تعني في حقيقتها سوى تثبيت الحال على ما هو عليه، بما يعني رضوخ الطرف الأضعف وتخليه عن كثير من المدن والأراضي. يدفع كل هذا لمناقشة الفرضية التي تقول إنه لا يوجد سلام سيئ، كما أنه لا توجد حرب جيدة. وفق هذه المقولة البراقة المنسوبة لبنجامين فرانكلين، فإن أي سلام هو أفضل من الحرب.. الغريب هو أن الأمريكيين الذين يضغطون الآن في سبيل تمرير هذا المبدأ وإقناع جميع الأطراف به، بمن فيهم الرئيس زيلينسكي، الذي يبدو اليوم أكثر اقتناعا بصعوبة الاستمرار في حرب يصعب حسمها، الغريب هو أنهم لم يقوموا بضغوط مماثلة في مواجهة حلفائهم الإسرائيليين، إبان الحرب على غزة، ولم يحثوهم على ضرورة توفير دماء الأبرياء.

سنذكر أن الأمريكيين كانوا متعاطفين مع الموقف الإسرائيلي، الذي يرفض وقف إطلاق النار، والذي كان يعتبر أن إيقاف الحرب، من دون تفكيك بنية حماس البشرية والعسكرية، يعني أن الحرب لم تحقق هدفها وأن التهديدات قائمة. حتى حينما تبين أنه لا يمكن الفصل بين المقاومين والمدنيين في تلك الرقعة الجغرافية الصغيرة، فإنهم آثروا دعم الإسرائيليين في اتجاههم لتجريف مجمل القطاع، بحيث يشمل الاستهداف حتى الأعداء المحتملين، أو البيئة المتعاطفة مع المقاومين.

في المسألة الأوكرانية فكّر الأمريكيون بكل شيء، فحتى يتم الحفاظ على ماء وجه الرئيس الأوكراني، الذي كانت تصريحاته تؤكد منذ البداية أنه لن يتخلى عن أرضه، فإن ما تم طرحه حاليا كان مسارين، الأول هو إعلان تبادل أراضي، بحيث يتنازل الطرفان عن أراضٍ تمددوا فيها خلال الحرب، وهو ما يبدو أمرا عادلا في ظاهره، لولا أن جميع المتابعين يعلمون أنه لا توجد مقارنة بين مناطق توغل الجيش الروسي وتلك المساحة الحدودية الصغيرة، التي دخلها الأوكرانيون.

أما المسار الثاني فهو الإعلان عن استفتاء في المناطق التي فرضت روسيا سيطرتها عليها، وهو ما يبدو أيضا لأول وهلة عادلا ومفيدا، حيث يمكن لزيلينسكي أن يتنصل حينها من المسؤولية قائلا، إن هذا هو خيار الشعب. مشكلة هذا المقترح هي أن الجميع يعلم أن نتيجة مثل هذه الاستفتاءات ستكون لصالح الروس، بسبب أعداد الموالين لروسيا، المستوطنين في المكان، أو الذين انتقلوا للمناطق «المحررة».

إلى جانب ذلك كله يخشى الأوروبيون من أمر آخر، وهو أن يتوافق الروس والأمريكيون على مستقبل أوكرانيا، بما يخدم مصالحهما ويهدد المصالح الأوروبية. هذا أمر غير مستبعد، فهناك كثير مما يجمع الطرفين. على رأس ذلك إيمان كل من الرئيس ترامب ونظيره بوتين بضرورة تنحي زيلينسكي، الذي يعتبره كلاهما بلا شرعية تؤهله لتمثيل شعبه بعد استمراره في الحكم بلا انتخابات. يمكن أن يتوقف بوتين عن تهديد أوروبا في حالة واحدة، وهي أن تقود الأحداث لتنصيب رئيس موالٍ لروسيا، حيث سيكون في تلك الحالة غير محتاج للتدخل العسكري المباشر، من أجل تنفيذ تطلعاته، التي يمكن أن يكون من بينها فك الارتباط بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي.

في السودان، الذي يعيش هو الآخر حربا ضروسا وتخريبية تقترب من إكمال عامها الثالث، يواجه السياسيون والعسكريون في الخرطوم ضغوطا، من أجل دفعهم إلى توقيع اتفاق وقفٍ لإطلاق النار، الانتهاكات الكبيرة والمجازر، التي تفاعل معها العالم، يتم استخدامها واستغلالها كوسيلة للضغط مع ترديد العبارة الأثيرة: «إن أي سلام سيكون أفضل من استمرار هدر الدماء». يردد كثير من الوسطاء والمتداخلين مع الحدث السوداني هذه العبارة الشاعرية بحسن أو بسوء نية. لكن ماذا يعني فرض السلام في الحالة السودانية؟ إنه لا يعني في ظل الوضع القائم سوى أمرين، وهما: إما أن يتم إقرار الأمر الواقع، بحيث يعمل الجميع على تثبيت الأطراف العسكرية في مناطق وجودها الحالية، ما يعني شرعنة سلطة محمد حمدان دقلو «حميدتي» والاعتراف بمناطق سيطرته، التي ستكون أشبه بدولة منفصلة، أو أن يحدث تفاوض مرضٍ لجميع الأطراف، ما يعني أن يتم التوافق على تقاسم السلطة السياسية مع حميدتي ومجموعته الإجرامية، بما يعيد الصورة لما كان عليه الحال في بداية الفترة الانتقالية. الخياران سيئان لدرجة أن لا أحد، حتى من السياسيين الداعمين لحميدتي، يجرؤ على اقتراحهما على الملأ، لذلك يكون البديل هو الحديث الفضفاض عن ضرورة وقف الحرب مهما كانت العواقب.

مقالات ذات صلة