غزّة… الغنيمة المُلغّمة

ليلى الشايب

حرير- تبدو احتفالية شرم الشيخ باتفاق وقف إطلاق النار في غزّة، ذاك الاحتفال الذي شغل العالم (24 ساعة وأكثر) عن أيّ أمر آخر أو أزمة أخرى، أنها حدثت قبل فترة طويلة، لم تتبقَ منها سوى تردّدات في صيغة طمأنة مستمرّة، لكنها غير واثقة بأن “الحرب انتهت ولن تعود”، حتى مع خروقات إسرائيل الصريحة المتحدّية، التي شهدت ذروتها الدموية في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، وأثارت مخاوف جدّية من انزلاق سريع إلى حرب لم يصدّق كثيرون بعد أنها توقّفت.

تجسّد الاتفاق والاحتفال، وذلك الصخب كلّه، في شخص الرئيس دونالد ترامب الذي تبنّى “الإنجاز الكبير” وبشّر به، وبالمرحلة الجديدة “غير المسبوقة” التي يمهّد لها في منطقة الشرق الأوسط، التي لم تهنأ باستقرار أو هدوء عبر تاريخها. ولذلك اعتبر أن كل مَن ينكص عن الاتفاق أو يُسيء إليه إنما يستهدفه شخصياً، فلن يتسامح مع من يجرؤ على ذلك، حتى لو كان نتنياهو الذي اعتبره شريكه في الحدث الكبير، وإن رغماً عن حقيقة رغبة الأخير في الاستمرار إلى النهاية.

غرام ترامب بالفرجة والجلبة، وحرصه على مرافقة كل خطوة يخطوها، بما يلزم من هذه البهارات، يصطدمان بزحمة الملفّات المطروحة أمامه داخلياً وخارجياً. ولذلك سرعان ما يتبدّد مفعول الفرجة وصداها بمجرّد انتقاله إلى قضية جديدة من قضايا إدارته، وما أكثرها. وما الردود المتشنّجة، بل المنافية للّباقة والدبلوماسية أحياناً، مثل ردّ المتحدّثة باسم البيت الأبيض كارولين ليفيت على سؤال أحد الصحافيين أخيراً، إلا دليل على شعور متزايد بالضغط والضيق. وهو التشخيص الذي يفسّر جزئياً اكتفاء ترامب، رغم خطورة الخروق الإسرائيلية في غزّة، بإيماءات تراوح بين الطمأنة بصمود اتفاقه التاريخي، والتهديد وخيبة الأمل، والخوف من مسح منجزه الأهم في لمح البصر. ويكاد يكون ارتباط مصالح ترامب الشخصية بغزّة، كما يراها في السنوات المقبلة منتجعاً، ومشروعاً عقارياً كبيراً، السبب الأهم في استمرار اهتمامه بها بعد إعلان اتفاق وقف الحرب، لأنه ينتمي إلى صنفٍ قليل الصبر، لا يحتمل كلمة “لا”، أو “لكن”، ولا نقاشاً عميقاً. سريع الملل ومتقلّب المزاج يحتاج دائماً إلى تقديم جديدٍ له، ومن الأفضل أن يكون ذا منفعة شخصية كبيرة إذا ما تعلّق الأمر خصوصاً بشأنٍ خارج حدود أميركا. وهنا يتضّح أكثر معنى شعاره الانتخابي “أميركا أولاً”، أو “لنجعل أميركا عظيمةً مرّة أخرى”. وفي الترجمة العملية السياسية لهذا الشعار، يؤمن الرئيس الأميركي مثلاً بأن وجود القوات الأميركية في العالم وجود مكلف وغير ضروري إلا في حالات نادرة، وأنه يأتي على حساب أولويات الداخل والجوار اللاتيني القريب، الذي يحتاج ضبطاً وتنظيماً. وأن دور “شرطي العالم” لا مانع من الاستمرار فيه، ولكن بشكل مختلف، وأدوات مختلفة لا تكلّف خزانة الدولة والدفاع، ولا تعرّض القوات الأميركية للمخاطر المباشرة، ويتكشّف أيضاً (خلال عشرة أشهر من ولايته الثانية المثيرة) أنه حزم أمره وأمر إدارته بأنه سيقرن الدور الأميركي بالملفات الدولية ذات المصالح الأميركية/ الذاتية المباشرة والصريحة، تأتي في شكل مكافأة على جهوده (وجهود فريقه) التي “لا نظير لها”، ولا يوجد بديل في العالم يمكنه بذلها، ولا فرض الحلول الصعبة عبرها، باستثنائه وباستثناء أميركا، وهو ما حدث في حرب غزّة، ونفّذ وأخرج بما يعزّز هذا الانطباع بشدّة، وبما يعزّز الدور الأميركي باعتباره دوراً فريداً ومتفرّداً لا غنى عنه.

بدأت حرب غزّة مع الديمقراطيين وجو بايدن، الذي التزم كغيره من رؤساء أميركا بالدعم الكامل واللامشروط لإسرائيل، رغم انتفاضة الشارع الأميركي والأوساط الأكاديمية ضدّ تورّط إدارتهم في حرب متوحّشة سيذكرها التاريخ، ويدين كل من شارك فيها زمناً طويلاً مقبلاً. ولو استمرّ الديمقراطيون في الحكم لاستمرّت الحرب بالانغماس الأميركي نفسه، ولكن ربّما ليس بالمآلات نفسها لمشروع ما بعد الحرب، الذي رُفع عنه الستار وأصاب العالم، أو جزءاً منه، بمزيج من الذهول والاشمئزاز والغضب، ما بدا استثماراً في بحر من الدماء والأشلاء والدموع والمآسي والخراب. ويمكن القول اليوم، وبقدر كبير من اليقين، إن حكومة نتنياهو أمعنت في إطالة أمد حربها البشعة انتظاراً لمجيء ترامب، وأنها زيّنت له، قبل فوزه، المكافأة العظيمة التي ستقدّم له إذا ما استمرّ في دعمها في تدمير القطاع والقضاء على سكّانه ومقاومته: مشروع عقاري ومنتجع لا مثيل لهما في بقعة استراتيجية ذات طبيعة ومشاهد خلّابة وطقس متوسّطي لطيف معتدل، سيجذب الأثرياء إلى المنطقة من أنحاء العالم. أمّا ما تكشّف تباعاً من تفاصيل المشروع وأسماء المشرفين عليه ومروّجيه “التجاريين” له، واجهةً لامعةً مثل جاريد كوشنر وزوجته ابنة ترامب والجماعات المحيطة بهما، فهي بصمات الرئيس الأميركي شخصياً في عملية استحواذ على القطاع، “ريفييرا الشرق الأوسط”، يقول من خلالها إنه يأخذ ما يحقّ له أخذه مقابل الأسلحة والأموال والمواقف السياسة والدعم الدبلوماسي، والتصويت في مجلس الأمن ضد ما يدين إسرائيل، وبما يمنحها فسحةً أطول من الوقت لتمضي إلى النهاية في التهيئة للمشروع عبر حرب الإبادة والتدمير لتسوية الأرض للجرّافات التي ستتحرّك عليها عند إشارة بدء تنفيذ “ريفييرا”. إنه المنطق نفسه الذي أعلنه في حرب أوكرانيا، وبه استطاع إرغام الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على توقيع مذكّرة تسليم ما في باطن الأرض الأوكرانية من معادن نفيسة إلى أميركا ـ ترامب. الدعم العسكري والمالي ثمنه الفوري جزء من الأرض أو الثروات. هذه عملة الرئيس الأميركي الجديدة التي تُتداول منذ قدومه، ولم يُعطِ لها اسماً بعد.

أمّا وجود رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير ضمن فريق إدارة غزّة “الجديدة”، فقد غضّ عنه ترامب النظر مؤقّتاً، وعلى مضض، ريثما تستقرّ له ولأسرته ودائرته المقربة أسّس المنتجع المُحبّب إلى قلبه، وما إن بدأ يستشعر بعض الثقة والارتياح إثر حفل توقيع اتفاق وقف إطلاق النار المشهود، حتى أفصح عن نيّته إقصاء بلير، ليس لأنه “دخيل” فقط على جزء من إمبراطوريته العقارية، بل بتعلّة أن وجوده يثير حفيظة عرب كثيرين لا يريدون أن يكون جزءاً من المشهد، نظراً إلى ارتباط اسمه بالمأساة التي حلّت بالعراق عام 2003. وهي كلمة حقّ أريد بها باطل.

من شاهد كوشنر وزوجته والمبعوث ستيف ويتكوف، في ما سمّي “ميدان المختطفين” في تل أبيب، وهم يتداولون الميكروفونات، ويخطبون في الجموع الإسرائيلية التي تتطلّع منهم إلى ما يطمئنهم، في غياب شبه كامل لرئيس حكومتهم نتنياهو، الذي قضوا عامين في التظاهر ضدّه وضدّ حكومته، وذلك التصفيق الحادّ لكلمات “الضيوف الحلفاء” الزائرين مقابل التصفير والاستهجان كلما ذُكر اسم نتنياهو، رسم في بضع دقائق صورة قلبت المواقع والأدوار، ومنحت آل ترامب ومبعوثه هامشاً للتأثير الجماهيري حُجب عن رئيس حكومة البلاد وأذرعه المتطرّفة، وأشعرتهم بالرعب وكأنهم لم يعودوا يتحكّمون في المشهد كاملاً في عقر دارهم، في لحظة فارقة هي لحظة القطاف بالنسبة إليهم. وفي الخلفية هيئة ترامب يقول: “نحن من أنجزنا هذا كلّه، ومن دوننا ما كان ليكون… أنت وحكومتك ارتكبتم هفوات كثيرة وخطيرة، ووضعتم مصالح أميركا ووحدتها وسمعتها في دائرة التهديد، ونحن أصلحنا ذلك كلّه، وأنقذناكم من أنفسكم، وسنحاول إعادة تأهيلكم عسى أن تنسى المنطقة والعالم تدريجياً ما فعلتم، وعليكم الآن أن تنصتوا وتفعلوا ما نشير به عليكم. والأهم من ذلك كلّه: اتفاق وقف إطلاق النار خطّ أحمر”.

بعد هذا المشهد المُربك، ورغم محاولات التربيت على الأكتاف وتبريد المشاعر المثارة بسببه، ولأسباب أخرى خلف الكواليس، طفت في سطح التصريحات عبارات من قبيل “إسرائيل دولة ذات سيادة، لا تتلقى أوامر من أحد… مع احترامنا للرئيس ترامب”، أو” لا أحد باستطاعته تحديد أولويات إسرائيل غير إسرائيل نفسها، ولا أحد يعرف غزّة وحماس والفلسطينيين أكثر منّا”، أو “سنتحرّك ضدّ أعدائنا كلّما رأينا ذلك ضرورياً”، بما يعني: لن نستشير أحداً لكي نحمي أنفسنا، حتى لو كان ترامب وحليفتنا أميركا. وفي المقابل، يرسل ترامب رسائل مقتضبة تخفي وراءها ما تخفيه، جاءت في صيغةٍ ربعُها أن الاتفاق صامد ولا عودة عنه، وثلاثة أرباعها الباقية تحذير مبطّن، وأمر بعدم تكرار فعل خرق وقف إطلاق النار، وعينه على ما يمكن أن يفسد نشوته بقرب انطلاق البناء في مشروعه المأمول. يبدو أن نتنياهو وزمرته يلعبون على نقاط ضعف ترامب ويبتزّونه بها، وهو يذكّرهم في كل مناسبة أنه أنقذهم من خطر وجودي محقّق، وبأن جائزته تستحقّ الثمن الباهظ الذي دفعه ولا يزال (أو العكس)، بل هي تتجاوز الجائزة إلى الحقّ في أخذ ما يستحقه.

يرى بعضهم ملامح خلاف حقيقي مكتوم بين الرئيس ترامب وحكومة نتنياهو حول اقتسام الغنيمة، إذ يبدو أن إغراء الأخير للأول بمكافأة لم تكن في تصوّره، لتصل إلى رغبة في ابتلاع أرض القطاع واقتسامها بما يراه هو مناسباً، مجزياً، و”عادلاً”، بالنظر إلى التضحيات التي بذلت من أجلها، وهي لم تكن “حربه” الشخصية من الأساس. وما الوضع المائع الذي يعيشه قطاع غزّة اليوم بعد وقف إطلاق النار، والبطء الشديد في السماح بعودة الحياة إلى مفاصله، والغموض الذي يكتنف التجسيد العملي لعنوان “اليوم التالي”، إلا مؤشّرات على تعثر ما. ربّما هي المرة الأولى التي تظهر فيها الولايات المتحدة في مقدّمة الصورة وإسرائيل خلفها بهذه الفجاجة، وهو مُستجَدٌّ لا يريح قادة إسرائيل التي لطالما استكانت وتعايشت مع فكرة “الحليف القوي والدائم” وصورته، ولكنها اصطدمت هذه المرّة بصورة مختلفة فيها تأنيب ومحاسبة وتحميل للمسؤولية على ما آلت إليه سمعة أميركا في العالم. وهو ما يعطي انطباعاً قوياً بأن جهوداً مضنيةً تُبذَل بعيداً من الأضواء لإعادة تركيب المشهد، وإعادته إلى سالف عهده، وهو أمر مستحيل أمام الأحداث الجسام التي صاغته على هيئته كما هي اليوم.

يضع ترامب كل ثقله في غزّة “الجديدة” وإغراءاتها، فيما تتباطأ إسرائيل في المضي إلى الأمام في بدء تنفيذ الاتفاق، وهي تعلم قصر نفسه وسرعة تقلّبه. وتدخل في خطّ مشروع غزّة أوروبا، التي استفزّها تغييبها في صفقات إعادة الإعمار وما بعده، فاستقبلت الرئيس المصري في بروكسل لبحث هذه المسألة بشكل رئيس. أوروبا التي لا تروق مجمل مواقفها “الحقوقية” لقادة إسرائيل. قد يتحمّلونها في مسألة غزّة تحديداً عنصراً يضيّق على ترامب الهامش الواسع الذي حجزه لنفسه فيها، من دون أن يعطوها كل ما تطلبه في نهاية المطاف. وكلّما انخرط ترامب في ملف أو أزمة جديدة، داخلية أو خارجية، ابتعد في نظر إسرائيل، ولو مؤقّتاً، عن كل الزخم السياسي والإعلامي والدبلوماسي الذي ضخّه في جنّة غزّة الموعودة. الإغلاق الحكومي، والتحرّكات العسكرية في الحديقة اللاتينية الخلفية لواشنطن، وحرب التعرفات الجمركية… كلّها عناوين حارقة لترامب، ولكنّها نسمات منعشة لإسرائيل التي لا تريد حليفاً ينافسها، وهي التي يردّد رئيس حكومتها في ما يشبه الهوس أن إسرائيل اليوم هي القوة المهيمنة الأعتى في الشرق الأوسط، وهي بلا شك لا ترغب في ما يعكّر هذه الصورة أو يضع ظلالاً من الشك حولها. وإن كانت الحقيقة التي يعرفها الجميع.

يقول محمود درويش: “عندما تسكت المدافع من حقّي أن أشعر بالجوع”. ولكن في غزّة التي جاع أهلها قبل سكوت المدافع وبعدها، سترتفع فيها وحولها، بعد أن تسكت المدافع وفي زمن الانكشافات الكبرى، أصوات السماسرة والباعة المختلفين على بضاعة لا يمتلكونها. وقد تفلت منهم نهائياً في لحظة لن تكون لهم عليها سطوة أو سلطان كما كان الحال دائماً أو هكذا خيّل لهم.

مقالات ذات صلة