هل ستسلّم حماس سلاحها؟

حلمي الأسمر

حرير- لم يكن السؤال عن “نزع سلاح حماس” يوماً مسألة تقنية أو تفاوضية بحتة، بل هو سؤال الوجود الفلسطيني نفسه، فالسلاح هنا ليس أداة قتال فقط، بل رمز البقاء، وشهادة على أن هذه الأرض لا تُدار بالوعود، بل بالإرادة.

منذ اندلاع “طوفان الأقصى”، تحوّل الحديث في العواصم الكبرى من “حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها” إلى “حق الفلسطيني في أن يبقى على قيد الكرامة”. واليوم، بعد عامين من الحرب، ومع تصاعد الوساطات والمشاريع الدولية لإعادة إعمار غزّة، تعود الجملة القديمة في ثوب جديد: على “حماس” أن تسلم سلاحها. لكن التاريخ، كما الذاكرة الفلسطينية، لا يُمحى بأمر من سفراء القنصليات، فقبل أكثر من أربعة عقود وقفت منظّمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات أمام مشهد مشابه: بيروت تحت الحصار، المدافع الصهيونية تحاصرها، والعالم يتحدّث عن “مخرجٍ مشرّف” للفلسطينيين، خرج عرفات من بيروت محمولاً على السفن، وخرج معه مقاتلوه بأسلحتهم الخفيفة، تاركين وراءهم مدافعهم وصواريخهم، ومشروعهم الوطني في حالة تيه. كانت الصفقة يومها أشبه بعملية إخراجٍ منظّمة للذاكرة المسلّحة من التاريخ العربي الحديث. وتلت ذلك، كما هو معروف، مذبحة صبرا وشاتيلا، حيث تُرك سكان المخيمين بلا سلاح يحميهم، فأثخنت فيهم المليشيات العميلة بغطاء ومشاركة صهيونية.

وبعد أربعين عاماً، يُعاد طرح السؤال نفسه على غزّة: هل يمكن أن تخرج المقاومة من أرضها كما خرجت منظمة التحرير من بيروت؟ … الجواب يأتي من قلب الركام: غزّة ليست بيروت، وحماس ليست في موقع عرفات حينذاك.

حين تتحدث إسرائيل ومعها الغرب عن “نزع سلاح حماس”، فإنهم يتحدثون عن إلغاء الفكرة، لا عن جمع الحديد والذخيرة. لأن المقاومة في غزّة تحوّلت منذ سنوات إلى بنية اجتماعية وروحية متغلغلة في كل بيت، وفي كل حارة، وفي كل قلبٍ رأى طفلاً يخرُج من تحت الأنقاض وهو يرفع شارة النصر. السلاح في غزّة اليوم ليس مُلكاً لفصيل، بل هو رأسمال الوعي الجمعي لشعبٍ أدرك أن السلاح هو ضمان وجوده في مواجهة مشروعٍ لا يعترف حتى بحقّه في الحياة، وهذا السلاح هو الذي وضع المقاومة على الطاولة، ودفع قوى عظمى إلى الجلوس قرب الهاتف تنتظر كلمتها، فهل يمكن التفريط به ببساطة؟

تسليم هذا السلاح من دون مقابلٍ سياسي واضح، أو من دون ضمانٍ بوقف الاحتلال ورفع الحصار، يعني ببساطة تسليم مفاتيح المقبرة، لا مفاتيح الدولة.

… كان عرفات في بيروت محاصراً داخل دولة أجنبية، بلا عمقٍ شعبي فلسطيني مباشر، محاطاً بضغطٍ عربيٍ خانق، ووسط توازنات دولية جعلت خروجه خياراً وحيداً للبقاء السياسي. أما “حماس” فهي في أرضها، وسط جمهورها، مُحاطة بجغرافيا تمتصّ الألم وتعيد إنتاجه مقاومة. حين خرجت منظّمة التحرير من بيروت، فقدت حضورها العسكري والسياسي تدريجيّاً، حتى عادت في “أوسلو” بسلطة منزوعة الدسم، تحكم تحت الاحتلال لا فوقه، و”حماس” تدرك أن أي “تسليمٍ للسلاح” بلا سيادة حقيقية يعني إعادة إنتاج “أوسلو” جديدة، ولكن بوجهٍ أمميّ هذه المرّة. لهذا السبب، حين تتحدّث الأطراف عن “نزع السلاح التدريجي”، تفهم “حماس” ذلك أنه مرحلة اختبار: هل هذا مسار نحو حريةٍ حقيقية، أم نحو تجريدٍ من وسائل البقاء؟ ومن هنا، المعادلة التي تراها المقاومة واضحة: من دون ضمانات دولية مكتوبة برفع الحصار ووقف العدوان والاعتراف بالحق الفلسطيني، لن يسلّم سلاح غزّة، بل سيُورَّث.

… يتعامل العالم مع السلاح الفلسطيني كما يتعامل مع سلاح المليشيات في أفريقيا أو كولومبيا، لكنه يتجاهل أن هذا السلاح نشأ في سياق استعمار دائم، وليس في حربٍ أهلية. حين سلّمت منظمة التحرير سلاحها الثقيل في بيروت، ظنّ العالم أنه أنهى “مرحلة العنف”، لكنه لم يفهم أنه أنهى مرحلة التوازن. منذ تلك اللحظة، أصبح الفلسطيني يفاوض من موقع الضعيف، حتى جاء جيل القسام وغزّة ليعيد المعادلة إلى نقطة الصفر: الذي لا تهابه لا يفاوضك، والذي لا يملك سلاحه لا يُسمع صوتُه. ولهذا، تحوّلت كل تجربة نزع سلاح من دون عدالة، تاريخيّاً، إلى وصفةٍ لانفجارٍ جديد، من كولومبيا إلى أيرلندا الشمالية، لم ينجح أي نزعٍ حقيقي للسلاح إلا حين وُجدت ضمانات سيادية وتعويضات سياسية تُعيد للمقاتلين مكانتهم، ولشعبهم كرامته.

… هناك من يتحدّث اليوم عن ثلاث مراحل: التجميد العسكري المؤقت: بقاء السلاح من دون استخدام مقابل إعمار وهدوء. النزع المشروط: تخزينه تحت إشراف دولي مع ضمانات سياسية. النزع الكامل: تسليم شامل له مقابل تسوية نهائية. ولكن الواقع يقول: لا الثاني ولا الثالث قابل للحياة قبل أن تتحقق معادلة العدالة. لا يمكن لمدينةٍ تحوّلت إلى مقبرة جماعية أن تُقنع أبناءها بتسليم بنادقهم لمن قتل أطفالهم، كما لا يمكن لحركةٍ تحمل ذاكرة نحو ثمانية عقود من الخديعة أن تكرّر مأساة بيروت وثورة 1936 باسم الواقعية. وتعرف “حماس”، كما كل فلسطيني، أن نزع السلاح في ظل الاحتلال ليس سلاماً، بل استسلاماً، ولو أرادت المقاومة الاستسلام لفعلتها قبل أن يقع كل هذا الدمار والخراب لغزّة، والضمانة الوحيدة لعدم العودة إلى الحرب أن يتوقّف السبب الذي ولّدها أصلاً: الاحتلال.

في نهاية المطاف، لن تُسلّم “حماس” سلاحها، لأنه لم يعد ملكاً لها، هو ملكٌ لدماء الشهداء، ولعزيمة الأمهات، ولأطفالٍ وُلدوا في الظلام فصنعوا من القنابل شموعاً. سلاح غزّة اليوم هو المعادل الموضوعي لكرامة الفلسطيني؛ لا يُباع، ولا يُسَلَّم، ولا يُخزَّن في المستودعات إلا إذا تخزّن معه الظلم والاحتلال. لقد سلّم عرفات سلاحه في بيروت ليحفظ رأس الثورة، فخسر الوطن. أما غزّة، فقد قرّرت أن تحفظ الوطن ولو فقدت رأسها، فمن لا يملك سلاحه لا يملك غده، ومن يسلّم سلاحه في زمن الاحتلال يسلم ذاكرته إلى العدم.

مقالات ذات صلة