«عقيدة ترامب»: حفيدة السلف وسليلة الاستثمار

صبحي حديدي

حرير- «النجاح»، كما بات يوصف عن باطل أو عن حقّ، تنفيذ المرحلة الأولى من خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لـ«وقف الحرب» في قطاع غزّة، حيث التسمية الأدقّ يتوجب أن تكون إنهاء حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية هناك؛ دفع البعض إلى الحديث عن «عقيدة ترامب» في السياسة الخارجية الأمريكية، وما إذا كانت تنهض على رؤية جيو ـ سياسية أوسع نطاقاً من أكذوبة إطفاء نيران 9 حروب التي لا يكفّ ترامب عن التبجح بها. مراقبون أكثر تدقيقاً في خيارات الإدارات الأمريكية المتعاقبة، على مدى أكثر من قرن وليس حفنة عقود، خاصة في أمريكا اللاتينية؛ ذهبوا إلى درجة المقارنة مع عقائد أخرى محورية، نُسبت إلى رؤساء أمريكيين سابقين.

على سبيل المثال، المدير التنفيذي لمعهد سيمون بوليفار في كاركاس، فنزويلا، كارمن نافاس رييس، تستعيد 4 «عقائد» تصلح بمثابة مهادٍ لما يمكن أن تقوم عليه «عقيدة ترامب» الراهنة:

ــ عقيدة جيمس مونرو لسنة 1823، التي تُعدّ الإعلان الرسمي الأوّل، الصريح والصاخب والسافر، عن أحادية النظرية القائلة بأولوية أمريكا على كلّ ما عداها من أمم، وعلى العالم بأسره في الواقع؛ خاصة التفريع، داخلها، الذي يقول: أمريكا للأمريكيين، وللهيمنة اليانكية أوّلاً وأخيراً.

ــ عقيدة تيودور روزفلت لسنة 1904، التي توسّع عقيدة سلفه مونرو عن طريق اعتماد الغزو العسكري الخارجي، «الوقائي» كما طاب له أن يسميه، لضمان الاستقرار؛ وفي سياق العقيدة عمدت الولايات المتحدة إلى اجتياح بنما وهاييتي والفلبين.

ــ عقيدة هاري ترومان لسنة 1947، وأرست للمرّة الأولى مبدأ الاحتواء وأحادية التدخل، بحيث ألغت عملياً القاعدة الأممية حول الحلول متعددة الجنسيات من جهة أولى؛ كما رسخت منظومة الائتلافات العسكرية على غرار الحلف الأطلسي، وأزاحت الكثير من عراقيل توفير مظلة أممية دولية لأنساق التدخل العسكري الخارجي.

ــ عقيدة جورج بوش الابن، بعد 11/9 خصوصاً، وتضمنت الضربة العسكرية الوقائية، مترافقة مع ضلالة نشر الديمقراطية عن طريق القوة العسكرية؛ وكان غزو العراق سنة 2003 بمثابة التطبيق الأقصى والأشدّ همجية للعقيدة.

من جانبه، وعلى جهة أبعد عن الأطلسي، في أستراليا، فإنّ لستر منسون أستاذ الدراسات الأمريكية في جامعة سدني، يحاول تفكيك «عقيدة ترامب» إلى عناصرها التكوينية العملية، الأقرب إلى إواليات الأداء والتنفيذ منها إلى صناعة القرار؛ حيث يظلّ هذا رهناً بما يشاء ترامب شخصياً، أنى شاء، كيفما شاء، حتى حين يقع التناقض بين مشيئة الرئيس ترامب ـ 2 بالمقارنة مع الرئيس ترامب ـ 1. هنا لائحة منسون للمراحل أو الجهات أو الطرائق الكفيلة بتطبيق «عقيدة ترامب» الراهنة:

ـ التنظيم الاتكالي، وبموجبه اختزل ترامب بنية اتخاذ القرار في إطار مجلس الأمن القومي، وأسند إلى وزير الخارجية ماركو روبيو غالبية مهامّ المجلس، مستغلاً فضيحة مستشار الأمن القومي المقال مايكل ولتز ومجموعة الدردشة على تطبيق «سغنال». كذلك قلّص ترامب عدد موظفي المجلس من 350 إلى 150، الذي يظلّ مع ذلك أعلى من أيّ معدّل قبل الرئيس الأسبق باراك اوباما. هذا التنظيم يجنّب الرئيس الأمريكي مشقة التشاور أو الاستماع إلى آراء متضاربة، والاكتفاء بما يهمس به روبيو في أذنه (وثمة صورة فوتوغرافية ذات دلالة عالية في هذا الصدد) أو ما تقدّره سوزي وايلز كبيرة موظفي البيت الأبيض.

ـ الاعتماد على المبعوث الخاص: ولكي يكون المقام ملائماً تماماً لقرارات انفرادية، أو لتشاور محدود النطاق، يعتمد ترامب على شبكة ضيقة من وظيفة المبعوث الخاص، كما في المثال الأبرز ستيف وتكوف، صديق الرئيس وشريكه في الأعمال والاستثمارات والصفقات العقارية، الذي كُلّف بمهامّ تفاوضية عالية الحساسية في تل أبيب والقاهرة والدوحة وموسكو. المثال الثاني هو صهر الرئيس، جاريد كوشنر، مهندس ما سُمّي بـ«صفقة القرن»، وشريك وتكوف في هندسة إعلان شرم الشيخ حول قطاع غزة. أمثلة أخرى تضمّ مسعد بولس مبعوث ترامب إلى أفريقيا، أو توم براك مبعوثه إلى تركيا وسوريا ولبنان…

ـ مقاربة «الصدمة والترويع»، التي تبدأ من انعكاس الأبعاد الارتجالية في شخصية ترامب بصدد قرارات ذات طابع جيو ـ سياسي وكوني فارق، ولا تنتهي عند الإعلانات المباغتة التي تبدو غالباً أقرب إلى الحماقة والتسرّع واللغو منها إلى خيارات رئيس القوة الكونية الاعظم؛ والمثال الذي يقفز سريعاً إلى الخاطر تصريحات ترامب حول تحويل قطاع غزّة إلى منتجع سياحي على غرار الـ»ريفييرا» الفرنسية، أو إعلانه بسط السيادة الأمريكية على جزيرة غرينلاند. ويساجل منسون بأن خصوصية هذه المقاربة تكمن أيضاً في مستويات متفاوتة من تنويع الإعراب عن المساندة القصوى وممارسة الضغط الخفي في آن معاً، كما في علاقة ترامب مع رئيس حكومة دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو.

ما لا يسجّله منسون هو الطبيعة الثنائية الأبرز خلف هذه الركائز، من حيث أنها حفيدة عقائد الأسلاف من مونرو وروزفلت إلى ترومان وبوش الابن، إذا وضع المرء جانباً ما يُنسب إيضاً إلى رونالد ريغان وبيل كلنتون وباراك أوباما؛ وأنها، ثانياً، سليلة عقلية المال والاستثمار والتجارة والعقار التي طبعت شخصية ترامب على الدوام، وتواصل التحكّم في كثير من مفاصل جهازه العقلي وغريزته السياسية. وليس البتة بمنأى عن هذه الشخصية أنّ قاموس ترامب الشخصي فقير ومحدود وركيك من جانب أوّل، ولكنه من الجانب الثاني الأهمّ يعكس شخصية زعيم عصابة، «غانغستر» منفلت من كلّ عقال، ولا حدود لمفرداته التي تمزج التهديد بالوقاحة؛ كما في أبكر تصريحاته حول قطاع غزّة، مطلع كانون الثاني (يناير) الماضي قبيل تنصيبه رسمياً: أنّ «الجحيم سوف يندلع في الشرق الأوسط» إذا لم يُطلق سراح الرهائن الإسرائيليين سريعاً.

ولعلّ هذه الحال تبدت مؤخراً على نحو فاقع، وحمّال مغزى في آن معاً، حين اتخذ ترامب قرار إعادة تسمية وزارة الدفاع بحيث تصبح وزارة حرب؛ وإذْ لا يصحّ استبعاد الحوافز الرمزية التي حرّكت الإجراء في دخيلة هذا الرئيس الأمريكي تحديداً، فإنّ من الأصحّ وضعه في سياق ملموس مادي، جيو ـ سياسي وعسكري واقتصادي واستثماري. وكانت خطبة ترامب أمام الكنيست الإسرائيلي بمثابة بيان حول المغانم المالية والتجارية خلف الصناعات العسكرية الأمريكية المتقدمة، بحيث لاح أنّ ترامب تاجر يتفاخر ببضاعته أثناء عرضها للبيع، أكثر منه رئيس قوة عظمى نووية مسلّحة حتى النواجذ.

والأرجح، في الخلاصة، أنّ معايير الصواب والإصابة في «عقيدة ترامب» الراهنة لن تتجلى في أية درجة من «النجاح» سوف تنتهي إليها بعض البنود الـ20 من خطته الشهيرة حول قطاع غزّة؛ بل لعلها لن تتضح، أيضاً، في أيّ إنجاز على صعيد وقف الحرب في أوكرانيا، أو احتواء الصين وزرع إسفين بين بكين وموسكو، فضلاً عن قطف الثمار المرجوة من إجراءات الحماية التجارية ورفع الرسوم الجمركية.

ذلك لأنّ ما عجز عنه السلف، لا يلوح أنه سيتحقق على أيدي… هذا الخَلَف!

مقالات ذات صلة