مشاجرة الجامعة.. اختبار للدولة الحديثة

جهاد المنسي

حرير- ما حدث قبل أيام في حرم الجامعة الأردنية لم يكن مجرد مشاجرة طلابية عابرة، بل اختبار حقيقي لقدرة الدولة على حماية مفهومها المدني الحداثي، وهيبتها المؤسسية، وصورتها كدولة قانون ترفع من شأن العقل والعلم فوق أي انتماء آخر، ودون أي مجاملات.

ما حصل في «أم الجامعات» مشهد لا نريده أن يتكرر، ولكنها أزمة تدق ناقوس العمل فتلك اللحظة الحرجة جاءت لتعكس أزمة أعمق من شجار بين طلبة، أزمة تمسّ بنية التفكير في المجتمع، وتضع علامات استفهام حول ما نغرسه في الأجيال من قيم، وحول عدالة النظام الجامعي برمته.

الحقيقة التي يتوجب الإشارة إليها أن الشغب الجامعي هو تشخيص لمرضٍ أعمق، أحد جذوره الرئيسة هو نظام القبول الجامعي الحالي، الذي أفرز بيئة مختلة في مفاهيم العدالة والتكافؤ، فحين يشعر الطالب أن فرصته في التعليم لا تقوم على المعدل والجدّ، بل على استثناءات، يتراجع الإيمان بقيمة التنافس، وتضعف روح الانتماء للمؤسسة الجامعية بوصفها بيتا للعلم لا ساحة للتمايز الاجتماعي.

نعم حان الوقت لأن نعيد النظر جذرياً في آلية القبول الموحد، وأن نعيد التوازن بين مبدأ العدالة والتنافس، فالأصل أن يكون القبول التنافسي على المعدل والكفاءة هو الأساس الذي يشمل نحو 80 % من المقاعد الجامعية وأكثر، فيما تُخصص الاستثناءات لما تبقى، ولكن أيضاً على أسس تنافسية داخل كل فئة، هكذا يتم استعادة الثقة بالجامعات، ويُعاد الاعتبار لقيمة الجهد والتميز، وتُغلق أبواب الشعور بالظلم الذي يولّد الغضب ويغذي العنف.

فالجامعات ليست صرحاً تعليمياً عادياً، بل رمز وطني له بعد سياسي ومدني وثقافي، وعندما تهتز صورة أي جامعة، تهتز صورة التعليم العالي كله، وهيبتها أمام أبنائها، لذلك، فإن ما جرى يجب أن يُقابل بحزم لا تهاون فيه، وبمراجعة لا تخشى المساءلة.

ولان الحديث عن دولة المؤسسات والقانون والدولة المدنية الحديثة فإنه من المفترض أن لا يكون ذاك شعاراً نعلّقه على الجدران، بل ممارسة يومية تبدأ من فرض سيادة القانون داخل أسوار الجامعات، ومحاسبة كل من يعبث بالأمن الجامعي أو يعتدي على الطلبة أو يهدد سمعة مؤسسات التعليم، فالمساس بالحرم الجامعي مساس بهيبة الدولة نفسها، ولا يجوز أن يمرّ بلا ردّ واضح وصارم.

الحقيقة الثابتة أن معالجة الترقيع غير مفيدة، وربما بدت الجامعة الأردنية من خلال معالجة الشغب الأخير حريصة على تفعيل رؤية دولة المؤسسات والقانون، وترك القضاء هو صاحب الحكم النهائي في القضية وهذا توجه محمود يحسب للجامعة وإدارتها.

وفي الوقت عينه، فإن المعالجة الأمنية وحدها لا تكفي، وانما المطلوب بناء وعي جامعي جديد، يستند لقيم الحوار والاختلاف الإيجابي، عبر أنشطة طلابية حقيقية، ومناهج تشجع على التفكير النقدي، وإدارة قادرة على أن تكون نموذجاً في الشفافية والانفتاح، فالعنف ليس قدراً، بل نتيجة فراغ ثقافي وتربوي يمكن ملؤه بإرادة إصلاح واعية، فإعادة الاعتبار للتعليم العالي، بدءاً من نظام القبول وحتى الانضباط داخل الحرم الجامعي، ليست ترفاً إصلاحياً، بل ضرورة وطنية لحماية هوية الأردن كدولة مدنية حديثة، والطالب الجامعي عليه أن يعرف أن القانون فوق الجميع، وأن الاختلاف لا يُفسد التعايش، وأن العلم لا يزدهر إلا في بيئة تحترم التنوع والعدالة والمساواة.

الشغب الجامعي مرض خبيث يتوجب استئصاله، والمحاسبة الصارمة لكل من يشارك أو يحرض أو يغذي العنف داخل الجامعات، جزء من الردع الإيجابي الذي يجب أن يتبناه مجلس التعليم العالي والجهات المختصة، فالصمت على مثل هذه الممارسات، أو التعامل معها بتسويات شكلية، لن يؤدي إلا إلى تكرارها، وربما اتساعها، وهو ما يشكل خطرا على منظومة التعليم برمتها، وهي فرصة لننهض بالتعليم، ونرسخ في أذهان الأجيال القادمة أن دولة المؤسسات والقانون تُبنى من قاعات الدرس.

مقالات ذات صلة