
الشرع في موسكو: ذرائعية إعادة التعريف
صبحي حديدي
حرير- مفارقات زيارة الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع إلى موسكو عديدة ومتنوعة المضامين والدلالات، وقد لا تكون الأبرز بينها أن «هيئة تحرير الشام» ما تزال مصنفة في لائحة «المنظمات الإرهابية»، وهي محظورة في الاتحاد الروسي، لأنها قاتلت التدخل العسكري الروسي في سوريا. تلك، وسواها، حيثيات لم تمنع (بالطبع!) الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من استقبال قائد الهيئة السابق، الذي لا خَلَف له أصلاً بعد التغييرات، في الموقع السياسي ـ الجهادي والتسمية الفصائلية، التي أدخلها عليها الشرع نفسه. تلك، غنيّ عن القول، حدود دنيا في الاشتراطات الذرائعية للسياسة عموماً، ولتطبيقاتها ذات الخصوصية في منطقة الشرق الاوسط خصوصاً، وضمن التقليد العريق الذي يضع المصالح فوق كلّ، وأيّ، اعتبار أخلاقي أو معنوي أو حتى سياسي مرحلي، ليس ثمة كبير اختلاف بين الاحتفاء بالشرع في موسكو، وما استُقبل به خلال لقاءات أخرى شهدتها باريس ونيويورك، وقبلها الرياض، وأبو ظبي والقاهرة وسواها.
تفصيل واحد يتوجب أن يلفت الانتباه أوّلاً، في المقابل، هو أنّ زيارة الشرع كانت أصلاً مبرمجة ضمن إطار القمة الروسية ـ العربية التي سعت موسكو إلى احتضانها، ثم اضطرت إلى تأجيلها أو إلغائها بسبب ضعف مشاركة الرؤساء والملوك العرب فيها، لارتباطات أخرى أكثر أهمية على غرار قمة شرم الشيخ الأخيرة مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، للتوقيع على اتفاق المرحلة الأولى من خطة ترامب لإنهاء حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزّة.
في قراءة أخرى، لو كان الكرملين غير مستعدّ، وربما غير متلهف، لاستقبال الشرع في موسكو، لتذرّع بانتفاء السبب الأصلي للزيارة، وطوى الفكرة نهائياً، أو أحالها إلى أجلٍ لاحق غير مُسمّى. ذلك، في ضوء أيّ مستوى من منطق خدمة المصالح الروسية في الشرق الأوسط عموماً، وفي سوريا مياه البحر الأبيض المتوسط خصوصاً، يعني أنّ موسكو راغبة في، بل لعلها بالغة الحرص على، استئناف «علاقات قوية مع سوريا منذ أكثر من 80 عاماً»، وكانت دائماً «علاقات صداقة»، كما عبّر بوتين خلال الترحيب بالشرع.
صحيح، بالفعل، أنّ العلاقات بين موسكو ونظام «الحركة التصحيحية» كانت قوية، خلال 30 سنة من حكم الأسد الأب، وبلغت ذروة غير مسبوقة خلال توريث الأسد الابن مع التدخل العسكري الروسي لإنقاذ النظام في أيلول (سبتمبر) 2015، وغير صحيح، بمعدّلات عالية أو شبه مطلقة، أنها كانت «علاقات صداقة»، و«لم تكن لروسيا أيّ علاقات منوطة بالحالة السياسية أو المصالح الضيقة، وهي مرتبطة بالمصالح المتبادلة ومصلحة الشعب السوري»، كما قال بوتين أيضاً.
موسكو، في سوريا ولانتشال نظام الأسدين الأب والوريث، قصفت المدن والبلدات والقرى ومخيمات اللجوء والمشافي والأفران والمدارس، وتعاملت مع ضباط النظام/ مجرمي الحرب الأشنع إجراماً ضدّ الشعب السوري، ودرّبت ميليشيات طائفية، ومكّنت عصابات مرتزقة وبلطجة، وتسترت على شبكات تصنيع وتهريب مخدرات، وأتاحت للمافيات الروسية أن تعيث فساداً في الاقتصاد وتنهب الثروات…
ففي الأسابيع القليلة التي أعقبت التدخل العسكري الروسي في سوريا، وبعد انكشاف حقائق مريعة حول حصار بلدة مضايا وتجويعها، ضرب الكرملين مثالاً سوريالياً حول أخلاقيات التعامل مع الشعب السوري، حين ألقت بعض الطائرات الروسية ما أسمته موسكو «مساعدات غذائية»، بعد أن تولت قاذفات الـ»سوخوي ـ 24» إسقاط القنابل العنقودية والصواريخ الانشطارية! ولم تكن مصادفة أن يتقصد الكرملين إماطة اللثام، خلال الفترة ذاتها، عن تفاصيل عقد تمّ إبرامه في آب (أغسطس) 2015 مع الأسد، منح روسيا حق استخدام مطار حميميم، في اللاذقية، إلى أجل غير محدود، أو حرص بوتين، شخصياً، على الإعلان بأنّ منح اللجوء إلى الأسد ـ إذا فشل في الانتخابات الرئاسية لعام 2017، بالطبع! ـ أمر أسهل من حالة إدوارد سنودن، المتعاقد التقني السابق لدى المخابرات المركزية الأمريكية، أو تركيز أجهزة الدعاية، في وزارة الدفاع الروسية، على إبراز أخبار نشر محطة الإنذار المبكر A-50 وقاذفات الـ Su35، على نحو يخاطب الجارة تركيا، ومن ورائها الحلف الأطلسي.
.. ولكن ليس مخاطبة واشنطن تحديداً، لأنّ ردود أفعال واشنطن على انتشار القوات الروسية في مطار حميميم وقاعدة طرطوس على الساحل السوري، لم تتجاوز اتصالاً هاتفياً من وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، واتصالاً ثانياً من وزير الدفاع الأمريكي أشتون كارتر مع نظيره الروسي سيرغي شويغو، وبالتالي لم تذهب المواقف الأمريكية إلى أيّ مستوى أعلى، أو نوع مختلف، من ردّ الفعل الاحتجاجي على خطوة روسية توجّب أن تبدو فارقة بالمعنى الجيو ـ سياسي، ثمّ الجيو ـ عسكري. ذلك لأنّ ما سعت موسكو إلى إقراره عسكرياً على الأرض، في أوكرانيا قبل سوريا، كان يفيد التالي: روسيا ليست بصدد استئناف أي طراز جديد من الحرب الباردة القديمة، حتى بمعنى الحروب المتخيَّلة؛ وهي ترى في الغرب، والولايات المتحدة خاصة، شركاء في ما يتوجب صياغته من سياسة وأمن واقتصاد على مستوى العالم. وتصعيد الوجود العسكري الروسي في سوريا إنما يذكّر بدور موسكو هذا، ويفتح باب التفاوض حول ملفات أخرى تخصّ هموم روسيا، وفي طليعتها العقوبات الاقتصادية، وكذلك حروب أسعار النفط، وسواها من ملفات قد تبدو شائكة إلا إذا أُخضعت لموازين ذرائعية وحسابات باردة.
الشرع، من جانبه، وصل إلى موسكو وفي العميق من ذاكرته الشخصية البعيدة، الجهادية سابقاً، هذا السجلّ المبدئي لنسخة بوتين من العلاقات الروسية ـ السورية، بتفاصيل أخرى قد يكون الزعيم السابق لـ«هيئة تحرير الشام» أدرى بها من كثيرين سواه، أمّا في ذاكرته القريبة، الحكومية والحوكمية هذه المرّة، وابتداءً من الأسابيع الأولى لانطلاق عملية «ردع العدوان»، فإنّ سلسلة عناصر روسية كانت تُثقل موازين زيارته إلى موسكو: أنّ الطيران الحربي الروسي تدخل، على استحياء ظاهر، خلال تحرير حلب، قبل أن يجثم صامتاً على المدرجات، وأنّ موسكو أدركت وصول نظام «الحركة التصحيحية»، بأسره، إلى مآل ختامي لا رجعة عنه، وليس «شحن» الأسد الابن المخلوع إلى موسكو، صحبة ملياراته المنهوبة من قوت الشعب السوري، وكبار مجرمي الحرب من عائلته وقادة أجهزته وجيشه، سوى ختم الكرملين على التحوّل الجذري الكبير.
ليس أقلّ ترجيحاً أنّ الشرع أدرك قيمة الإفادات الجيو ـ سياسية والاقتصادية والتنموية والعسكرية طيّ تصريحه التالي، في الردّ على ترحيب بوتين: «نحاول أن نعيد ونعرِّف بشكل جديد طبيعة هذه العلاقات، على أن يكون هناك استقلال للحالة السورية والسيادة السورية وأيضاً سلامة ووحدة الأراضي واستقرارها الأمني»، والتشديد كذلك على أنّ «علاقات ثنائية ومصالح مشتركة تربطنا مع روسيا، ونحترم كل ما مضى من الاتفاقيات معها». تلك افتراضات صحيحة تماماً، تتساوى في الصحة مع معطيات أخرى إقليمية ودولية، مثل حاجة سوريا الجديدة إلى توظيف الصفحة الجديدة مع موسكو من أجل صياغات أكثر توازناً للعلاقات مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وأكثر تحصيناً في المواجهة المفتوحة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، سواء خلال نهج التصعيد والاحتلال الذي يعتمده بنيامين نتنياهو اليوم، أو بعد انتخابات 2026 الإسرائيلية أياً كانت نتائجها.
ولعلّ الثابت حتى الساعة أنّ الموازين بين موسكو ودمشق ليست متطابقة، ولا هي متكافئة بالطبع، الأمر لا ينفي أنها، على الجانبين، في مستويات قصوى من إعادة التعريف… ذرائعيا، في المقام الأوّل.