السودان: حرب النهايات المؤجلة

ناصر السيد النور

حرير- من بين حروب العالم الداخلية منها والدولية، تظل حرب الأزمة السودانية بعيدة عن أي تصور لحل نهائي يجمع عليه المجتمع الدولي لإنهاء حرب مدمرة استطالت في مداها الزمني والتدميري، ولكنها مستمرة على ما خلفته من أوضاع إنسانية مأساوية لم تعد تحتمل المزيد. ومع إصرار طرفيها على المضي إلى نهايات مجهولة الهدف، يزداد عنفها العسكري باستخدام الأسلحة المتاحة كافة، بما فيها استهداف المدنيين ضحايا الحرب قصفا بالطيران والمسيرات في عدة مدن بالبلاد كما جرى هذا الأسبوع.

وإزاء هذا الواقع القاتم، الذي تغيب فيه أي حلول يمكن أن تخلق مخرجا من هذا المأزق الذي تتداخل فيه عوامل حرجة، جعلت الحرب التي بدأت في الخامس عشر من أبريل 2023، تستمر ولو أنها استنفدت مبررات استمرارها على كل الأصعدة. ومن هذه العوامل ما يعود إلى طبيعة الحرب نفسها، وتحولاتها ما بين حرب على السلطة والانقسام المجتمعي، والدوافع والمطامع السياسية، إلى بوادر الانفصال الجاري على إقليم دارفور بحكومته الجديدة “حكومة تأسيس” تحت مظلة قوات الدعم السريع وهيمنتها.

وعلى ضوء المؤثرات وانعكاساتها السياسية، التي أحدثها اتفاق غزة بشرم الشيخ المصرية، لإنهاء حرب غزة، والدور الذي يتباهى به الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كبطل سلام قادر على إطفاء حرائق الحروب المنتشرة في العالم؛ ربما تعلقت آمال السودانيين في دور أمريكي يضع حدا لمعاناتهم، على غرار ما تم في غزة، مع اختلاف طبيعة الأزمتين. ويأتي الدور الأمريكي المرتقب على خلفية إدارة الولايات المتحدة للأزمة منذ اندلاعها، الذي ركن إلى دعوة الأطراف لإيقاف الحرب، وإيصال المساعدات للمتضررين وغيرها من وسائل محدودة الأثر، بما فيها تعيين مبعوث خاص يؤكد في كل مرة تشديد رئيسه على إنهاء حرب السودان، وفرض عقوبات طالت شخصيات من الطرفين. وغض النظر عن أولوية الأزمة السودانية على أجندة السياسات الخارجية الأمريكية إلا أن دورها يظل مطلوبا بوصفها راعية لأولى جولات التفاوض في منبر جدة بُعيد بداية الحرب، ومن ثم وزنها الدولي في النظام العالمي. فالحرب التي لم تعد، بعد أن جربت فيها السيناريوهات، تحتمل حلول ووعود الأطراف الإقليمية المؤثرة في مجريات الصراع، أو الدولية التي تطمح في أن تؤثر بطريقة ما، إلا أن ما يتحقق في واقع الحرب يفصح أكثر مما تستطبنه النوايا السياسية لكل طرف. والأمر الأكثر تأثيرا في نهاية المطاف تعقيدات الداخل، التي فعّلت الحرب من دورها، من تكوينات سياسية داخلية داعمة لاستمرار الحرب اختلط فيها العسكري بالسياسي، مما أخل بمراكز اتخاذ القرار وخلق مساحات مفتوحة بقدر تمدد الحرب دون تحديد واضح للموقف النهائي لها، على مستوى الخطاب الرسمي للدولة.

هذا التعارض في الموقف الذي تبديه حكومة الأمر الواقع في بورتسودان، أربك التعامل مع محاور الأزمة، من رفض صريح حول التفاوض مع قوات الدعم السريع، ورفض قاطع للمبادرة الإقليمية والدولية كالرباعية، إلى لقاء الجنرال عبد الفتاح البرهان سرا في سويسرا في أغسطس الماضي مع مستشار الرئيس الأمريكي للشؤون الافريقية مسعد بولس، يضاف إلى ذلك التصاعد العسكري الذي يصاحب الحرب من تجدد تكوين التشكيلات الميليشاوية، تحت رعاية الحكومة نفسها.

وبهذا المسار التصاعدي للحرب، لم يتبق لطرفي الأزمة إلا التنازل والاعتراف في الوقت نفسه بواقع الحرب، ولو أن هذا غير وارد في أجندة مشعلي الحرب، من طرف الحركة الإسلامية المتحكمة بسياسات توجيهات الحرب. هذا الإصرار المتعنت يلزم الأطراف الدولية (دول الرباعية) مواصلة الضغط على الطرفين، آخذة في الاعتبار التطورات التي حدثت منذ طرح خريطة طريق المبادرة في سبتمبر الماضي، بما يقتضي التعديل على نقاطها إذا ما لزم الأمر. وقد أكد مجلس الوزراء السعودي في إجماعه الدوري هذا الأسبوع تأكيده مجددا على أهمية التزام الأطراف السودانية بما تم الاتفاق عليه في إعلان جدة، والعمل الجاد على تجنيب الشعب السوداني مزيداً من المعاناة والدمار. ويأتي دور السعودية باعتبارها دولة ترعى مفاوضات مشتركة مع الولايات المتحدة الأمريكية للتوسط بين الطرفين. ويتضح من مجريات الحرب ووقائعها اليومية، عجز المكون الوطني في الداخل من التوصل لأي صيغة لإنهاء النزاع تحقيقا للسلام، والبلاد ترزح تحت استقطاب عسكري وجهوي حاد، لا يؤمل أن يستجيب للدعوات الداخلية بإيقاف الحرب، ولو على المستوى الإنساني.

الجمود في الأزمة السودانية استدعى من القوى المدنية المعارضة للحرب والحكومة القائمة، إلى تقديم رؤى للخروج من الأزمة عادة ما تقابل بالرفض، فمن جهة أنها قوى مدنية لا تحمل السلاح في ظل دولة تعسكرت فيها الحياة السياسية، وعادة ما تصنف بانحيازها إلى طرف الدعم السريع. فقد سبق أن طرح تحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة “صمود” بزعامة رئيس الوزراء السابق HYPERLINK “https://aja.me/dnn4t7″عبد الله حمدوك رؤيته، لما أطلقت عليه مسارات متعددة المسارات، لإنهاء الحرب شملت نقاطا عسكرية وسياسية، إلا أن الموقف العدائي بينها وبين الحكومة لم تتم الاستجابة لدعواها. وهذا المؤشر في التداول مع المكونات السياسية المدنية، يضيّق من فرص إمكانيات الحوار الداخلي. يمكن بالمفهوم التقليدي لنهايات الحروب وأزماتها أن تنتهي حول موائد التفاوض، أو الحسم العسكري بين طرفيه، إلا أن الأزمة السودانية بوتيرتها العسكرية الشاملة تجعل من الصعب إن لم يكن من المستحيل قابليتها لأي من الوسائل المعهودة في فض النزاعات. وتكون بذلك قد استدعت حلولا من خارج إطارها الداخلي وربما محيطها الإقليمي ومنظماته ودوله على ما تمثله الحرب من تحديات استراتيجية واقتصادية وإنسانية على حدودها. وبات الحل الدولي بتعدد اتجاهاته مطلوبا للتعامل مع أزمة مفتوحة النهايات، ومن المتوقع أيضا أن يزداد الضغط عبر ما هو مطروح حاليا من مبادرات وأخصها مبادرة (الرباعية) على ما أثارته من جدل من الجانب الحكومي والجيش. فالأزمة لا يمكن تصور حلها بمعزل عن العوامل الدولية ومؤثراتها في قضايا باتت تمس الأمن والسلم الدوليين بمعايير الأمم المتحدة. وهو ما يعني على كثرة ما صدر من إدانات ومناشدات من المنظمة الدولية، فلم يبق إلا أن تفّعل من وسائلها وتدابيرها المنصوص عليها في مواثيقها.

إن وقف إطلاق النار المطلب الأولي في كل المبادرات بات من الأمور الأكثر إلحاحا في ملف الأزمة السودانية، وهو ما لم يستجب له الطرفان طوال مدة الحرب، ما عمق من الأزمة على الصعيد العسكري. قوات الدعم السريع والجيش الحكومي يتجاوزان باستمرار أهم بند من بنود التفاوض، الذي يعني عند تفعيله استعدادا عمليا لحل طال انتظاره. فقوات الدعم السريع التي عادة ما تبدي استجابتها الفورية، لأي مبادرة تخرق وقف إطلاق النار في عملياتها العسكرية المستمرة. بينما يفسر الجيش الدعوات لوقف إطلاق النار شرطا مفروضا من الخارج، وانتقاصا من سيادة الدولة، وموقفا يدعم موقف الدعم السريع. ولأن الحرب قد تجاوزت مرحلة المناورات السياسية والعسكرية بوحشية نتائجها تدفع إلى التساؤل حول إمكانية الطرفين في الاستمرار في حرب بلا نهاية تلوح في أفق المشهد السياسي السوداني. فالمسارات التالية المتاحة بحكم الواقع لحل الأزمة بالاستناد إلى الحقائق التي بدأت في الموقف العسكري والسياسي بين الطرفين غالبا ما تستجيب لضغط دولي تكون الولايات المتحدة طرفا رئيسيا فيه لعوامل مفهومة بمساندة دول قد لا يظهر دورها على الأقل في المرحلة الحالية.

مقالات ذات صلة