
حتى لا تكون قمة شرم الشيخ كسابقاتها
محمد كريشان
حرير- أبرز ما خرجت به قمة شرم الشيخ الأخيرة هو إنهاء حرب الإبادة في غزة وافتضاح فشل تهجير أهلها والتطهير العرقي، أما السلام الذي رفعته شعارا فما زال بعيد المنال للأسف الشديد.
السبب في ذلك أنه بعد كل حدث جلل في منطقتنا يهرع الجميع إلى عقد قمة دولية كبرى يغلب عليها الطابع الفرجوي والكلام الكثير… ثم لا شيء!!
أكثر من ذلك، بين كل قمة وأخرى نجد أن الوضع ازداد سوءا: إسرائيل ازدادت وحشية، واشنطن ازدادت انحيازا فظّا لها، العرب ازدادوا ضعفا، القيادة الفلسطينية ازدادت ضمورا. وحده الشعب الفلسطيني ازداد شراسة واصرارا على انتزاع حقوقه رغم الثمن الباهظ.
شرم الشيخ نفسها احتضنت قبل عشرين عاما قمةً جمعت وقتها الرئيس المصري حسني مبارك والفلسطيني محمود عباس والعاهل الأردني عبد الله الثاني ورئيس الوزراء الإسرائيلي أرئيل شارون.
في الثامن من شباط/ فبراير 2005 اجتمع كل هؤلاء بهدف «العمل على إنهاء التوتر القائم لأربع سنوات منذ انتفاضة الأقصى وتحقيق السلام»، فلم ينتج عنها في النهاية سوى توقف الانتفاضة لتواصل سلطات الاحتلال استشراسها حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه في غزة طوال عامين كاملين.
هذه القمم لم تعقد في كل مرة إلا بعد كل تصعيد خطير، داخل فلسطين أو في المنطقة، ليتّضح في النهاية أنها قمم لا تعدو أن تكون محاولة لامتصاص آثار التداعيات مع إغداق الوعود الخلاّبة عن سلام قريب لم يأت أبدا.
أسلوب المؤتمرات الفرجوية التي يصاحبها عادة صخب إعلامي كبير بدأت في الحقيقة منذ ذلك المؤتمر الدولي الذي انعقد في الثلاثين من تشرين الأول/ أكتوبر عام 1991 في القصر الملكي في العاصة الاسبانية الذي عرف بـ«مؤتمر مدريد للسلام» وقد جاء في أعقاب كارثة غزو العراق للكويت وبعد سنوات من «انتفاضة الحجارة» التي انطلقت نهاية 1987.
شاركت في المؤتمر وفود من سوريا ولبنان ومصر ووفد مشترك فلسطيني ـ أردني برعاية أمريكية روسية بحضور الرئيسين الأمريكي جورج بوش الأب والروسي ميخائيل غورباتشوف. ثلاثة أيام من الخطب أعقبتها مفاوضات ثنائية لأسبوع في مدريد، تبعتها أخرى في واشنطن لم تؤد إلى شيء رغم الزخم الدولي القوي آنذاك. كسر المؤتمر عقدة التفاوض مع إسرائيل لكنه لم يفلح في إرساء السلام المنشود في المنطقة، خاصة بعدما اختارت منظمة التحرير الفلسطينية مسارا منفردا من خلال المحادثات السرية في أوسلو التي أنتجت الاتفاقية المعروفة باسمها ووقعت في واشنطن في 13أيلول / سبتمبر 1993 لتعقبها سلسلة من القمم الاستعراضية لاتفاقات ملحقة ضربت بها إسرائيل كلها عرض الحائط.
هامٌ جدا أن حرب غزة انتهت وأن «وثيقة ضمانات» بشأنها قد وقّعت في شرم الشيخ، لكن الأهم يبقى أن العالم كله وقف على تشبث الفلسطينيين بأرضهم وإفشالهم لمشروع التطهير والتهجير، وأنه أظهر من التضامن الشعبي الواسع ما عرّفَ، من لم يكن يعرف، بحقائق الصراع وبشاعة الاحتلال، ما أجبر في النهاية عديد الحكومات على الاعتراف بالدولة الفلسطينية على الحدود التي أقرتها قرارات الشرعية الدولية بعد سنوات من التجاهل والتسويف.
مع ذلك، لم تفلح قمة شرم الشيخ الأخيرة، رغم المستوى العالي من الحضور الدولي، في إظهار أن العقدة الأولى والأخيرة في كل شيء هو حتمية إنهاء الاحتلال بعد كل هذه العقود من المعاناة، وضرورة المضي بشكل جاد وحقيقي في إرساء أسس الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة رغم الرفض الإسرائيلي.
هذا هو التحدي الرئيسي، فالدول الغربية الكبرى التي اعترفت بالدولة الفلسطينية، وكلّفها ذلك من الشتائم الإسرائيلية وقلة أدب مسؤوليها وبذاءتهم الكثير، مدعوة اليوم إلى إدراك أن إسرائيل لا يمكن أن تُنهي احتلالها طالما بقيت تحظى بهذه المعاملة المدلّلة من واشنطن، وطالما لم تفرض عليها هذه الدول عقوبات اقتصادية وتجارية وعسكرية تجعلها تدرك فداحة نهجها فتنصاع مثلما انصاع قبلها نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا بداية تسعينات القرن الماضي عندما ركّعته العقوبات والنبذ والعزلة.
أسوأ ما يمكن أن ينتج لاحقا عن قمة شرم الشيخ هو «إعادة تأهيل» نتنياهو وفريقه الفاشي تحت ذريعة أن هناك صفحة جديدة فتحت من أجل السلام وإعادة الإعمار في غزة. مثل هذا التوجه يمكن أن يشكّل طوق نجاة لحكومة مجرم الحرب الذي قد يسيل لعابه من جديد لاستمرار مسلسل التطبيع مع دول عربية، كما يوحي بذلك ترامب عن حق أو باطل، خاصة في ضوء ما قاله في خطابه في الكنيست.
جيد أن تكرّس قمة شرم الشيخ انتهاء الحرب رسميا في غزة، لكنها تبقي مخيفة إن هي سايرت المسعى الأمريكي في هذا الاتجاه أو إن هي أعادت ملهاة القمم التي تسمع جعجعتها ولا ترى لها طحنا، وإن جاء فهو طحن يوضع في أكياس العدو وليس أكياس الفلسطينيين. قمم ينطبق عليها المثل التونسي القائل «الزغاريد أكثر من الكسكسي»!!.