
أبواق الإبادة: كل اتهام هو اعتراف!
سنان أنطون
حرير- لا أوهام عن الدور المتوقع للإعلام السائد كأداة أيديولوجية في أي مجتمع، بغض النظر عن تصنيف النظام السياسي فيه. فالبروبغاندا ليست حكراً، ولا يقتصر وجودها، على المجتمعات والدول التي لا تُصنَّف في خانة الديمقراطيات الليبرالية. لكن حرب الإبادة ضد الفلسطينيين في غزة أسقطت ما كان قد تبقى من أقنعة مهلهلة. وإن كان قد سقط منها الكثير قبل ذلك في حروب سابقة. وبالذات قُبيْل وبعد غزو العراق واحتلاله، حين تفانت وسائل الإعلام السائد آنذاك في تأدية مهمتها بتهيئة المناخ العام، وترديد أكاذيب ملفّقة بهيئة تقارير وحقائق تروج لخطاب الدولة، وكان ما كان.
كلما دار حديث عن دور الإعلام السائد وعلاقته بالدولة وبمصالح الطبقات الحاكمة في الديمقراطيات الغربية، وفي الولايات المتحدة بالذات، تذكرتُ مقولة للإعلامية الأمريكية اليسارية أيمي غودمان، التي كان برنامجها اليومي «الديمقراطية الآن» وما يزال، واحداً من المنابر النادرة المستقلّة، التي تقدّم للمتلقين خطاباً إعلامياً مستقلّاً ومضاداً للسائد، وفسحة تستضيف فيها الأصوات والآراء الناقدة. ومقولتها، البليغة على بساطتها، هي «لا يوجد إعلام دولة رسميّ في الولايات المتحدة، لإن الإعلام السائد (إعلام الشركات)، يقوم بالمهمة على أكمل وجه».
هناك، بالطبع، إعلام دولة لكنّه موجه إلى الخارج، مثل «صوت أمريكا» و«قناة الحرة» وتوجهاتها معروفة. يمكن للقراء زيارة موقع «الحرة» الذي تتصدره لحظة كتابة هذه السطور مادتان: «أن تصلي علنا: الحرة تحاور حاخام الخليج» وافتتاحية عن «جراح 7 أكتوبر» تتحدث عن محنة الأسرى الإسرائيليين (تسميهم «رهائن»). فلا جراح أخرى تستحق الإشارة. في القسم التعريفي بالمؤسسة الأم، «إم بي إن» نقرأ «هي صوت أمريكا في المنطقة، والمصدر الإعلامي الموثوق لشرح السياسة الأمريكية، تُسلط الضوء على قصص غير مروية تتعلق بحقوق الإنسان، التسامح الديني والفساد. وتتصدى هذه المؤسسة الإعلامية بقوة للمعلومات المضللة التي تنتجها الصين وإيران وروسيا في وسائل الإعلام العربية». والجملة الأخيرة لافتة بالطبع، فالتضليل من اختصاص الآخرين، فحسب. توالت الفضائح بعد السابع من أكتوبر عن دور مؤسسات وإعلاميين وإعلاميات في ترديد الخطاب الصهيوني وتواطؤهم مع إسرائيل وسياساتها وتوجهاتها، وآخرها كان قبل أيام، حين ظهر فان جونز، وهو إعلامي ديمقراطي معروف، وكان أحد مستشاري الرئيس السابق أوباما، على برنامج مشهور يقدّمه، بيل ماهر، المعروف بعنصريته ضد العرب والمسلمين. علّق جونز على سيل الصور التي تُظهر الأطفال الموتى في غزة ساخراً من أن المرء لا يشاهد شيئاً غيرها، باستثناء صورة «ددي» (الفنان الشهير الذي حكم عليه بالسجن مؤخراً لارتكابه جرائم مشينة) بين حين وآخر، وتصاعدت ضحكات الجمهور. وحذّر جونز الشباب من أن تخدعهم الصور، لأن السبب وراء هذا السيل هو حملة تضليل تقوم بها إيران وقطر على منصتي إنستغرام وتك توك. بعد أن انتشرت اللقطة على وسائل التواصل تعرّض جونز إلى هجوم عنيف ومُستحَق مما اضطره لأن يغرّد معتذراً عن تحويل موت أطفال غزة إلى نكتة. لكن الاعتذار كان باهتاً ولم يكلّف جونز نفسه بذكر «إسرائيل» ولا «الإبادة». وكأن أطفال غزة يموتون لسبب غامض وغير معروف، لكن تغييب الفاعل والقاتل هو واحد من متطلبات خطاب الولاء لإسرائيل وقد تكرر هذا التغييب في العناوين الرئيسية والتقارير في الإعلام المتواطئ طوال شهور الإبادة. وليس جونز أول ديمقراطي يردد لازمة من مناهج الدعاية الصهيونية المنظّمة، التي أنفقت الملايين في حملة كان هدفها التصدي للخطاب المناهض للإبادة والداعم لغزة والداعي لوقف إطلاق النار، وشيطنته وربطه بقوى خارجية، والترويج لرؤية إسرائيل وداعميها.
كانت صحيفة «الغارديان» البريطانية قد كشفت في تقرير في يونيو 2024 أن إسرائيل كانت قد أنفقت خلال شهور، 8 ملايين دولار لدعم حملة لتغيير الرأي العام في الولايات المتحدة وأوروبا. فسبق أن اتهمت نانسي بيلوسي المتحدثة السابقة باسم الكونغرس عن الحزب الديمقراطي المتظاهرين المناصرين لفلسطين وغزة بأنهم مدعومون من الصين. وبعدها اتهمت الداعين إلى وقف إطلاق النار في لقاء على محطة «سي إن إن» بأنهم على ارتباط بروسيا وبوتين.
«كل اتهام هو اعتراف» هي واحدة من الجمل التي تُرَدّد في السنتين الأخيرتين حين تظهر الحقائق وتكشف التقارير أن إسرائيل وداعميها متهمون بما ألصقوه من تهم جزافاً بالفلسطينيين ومن يدعمهم. من استخدام المدنيين دروعاً بشرية، إلى وضع المقرّات العسكرية بالقرب من المستشفيات أو داخلها، أو الادعاء بأن المناهضين للإبادة عملاء لدول أجنبية، أو منظمات تدعمها وتمولها. وحسب موقع «دروبسايت»، فقد ظهر اسم جونز على قائمة مع صحافيين وإعلاميين سيشتركون في زمالة أسستها منظّمة صهيونية، مهمتها الرسمية دعم إسرائيل، وستقام ورشاتها في لوس أنجلس وواشنطن ونيويورك، وسيتحاورون فيها مع كبار الصحافيين والأكاديميين وصناع السياسة حول مواضيع «التضليل في الشرق الأوسط» وكيفية «تغطية معاداة السامية». وذكر التقرير أن من بين المشتركين مع جونز، شارون أوترمان، التي كانت تغطي مظاهرات الجامعات في الولايات المتحدة لصحيفة «نيويورك تايمز». ولا بد من التذكير أن رئاسات الجامعات كانت تدّعي إبان الحراك الطلابي ومخيمات التضامن مع غزة، أن جهات خارجية، وربما دول، قد تكون وراء زخم المظاهرات وأن حماس قد اخترقت صفوف الطلاب والأساتذة!