
المزايدون على الفلسطينيين
محمد كريشان
حرير- «ما قابلت عربيا واحدا إلا ووجدته فلسطينيا أكثر مني»… قالها لي مرة القيادي الفلسطيني الراحل صائب عريقات ونحن نخوض في هموم المفاوضات، وقد كان المسؤول عن إدارتها مع جانب إسرائيلي مراوغ ومحتال.
عريقات لم يقلها متبرّما أو متأفّفا، بل قالها بنبرة هي أقرب إلى الفخر بأن تكون القضية الفلسطينية محتضنة من قبل الجمهور العربي الواسع إلى الدرجة التي يسمح فيها بعضه لنفسه بأن يكون أكثر حرصا، أو تشدّدا، في الدفاع عن الحق الفلسطيني. تذكّرت هذه الدردشة مع المسؤول الفلسطيني البارز عند متابعة بعض المواقف المختلفة عن الشأن الفلسطيني، عامان بعد «طوفان الأقصى».
طبعا الأمر هنا لا علاقة له أبدا بموجة التضامن مع أهالي غزة، سواء كان ذلك في وسائل الإعلام أو مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، أو ما تعبّر عنه جموع الناس الغاضبة في العواصم العالمية والعربية ضد الإبادة والدعوة العاجلة لإيقافها، بل بأولئك المزايدين الذين يرفعون صوتهم عاليا عن طبيعة الحل السياسي «الواجب» على الفلسطينيين القبول به أو رفضه.
«الرافضون أبدا»… هذا التعبير للقيادي الفلسطيني الراحل خالد الحسن (أبو السعيد) أحد مؤسسي حركة «فتح» ومنظّريها السياسيين البارزين، في وصف فصائل فلسطينية معارضة «أدمنت» لسنوات معارضة كل ما يطرح من تسويات مرحلية أو مفاوضات، يبدو أنه انتقل الآن إلى دوائر أخرى في الساحة العربية، لا ترى حرجا في «التبرّع» بمواقف سياسية أكثر «ثورية» و«تجذّرا» من مواقف الفلسطينيين أنفسهم، بل ومن مواقف فصائلهم المقاتلة على الأرض. وحتى لا نتحدث إلا عما نعرفه يقينا، ودون إثارة حساسيات عربية لا لزوم لها، فلن نشير هنا إلا هؤلاء المزايدين في تونس دون غيرها، سواء على مستوى رئيسها ودبلوماسيتها أو بعض «رموز» تياره الشعبوي البائس.
لا يترك قيس سعيّد فرصة إلا ويعبّر فيها عن أنه مع قيام دولة فلسطينية على كامل تراب فلسطين وعاصمتها القدس الشريف، دونما إشارة إلى الشرعية الدولية وما نصّت عليه من قرارات. عبّر عن ذلك مرارا عديدة في بيانات الرئاسة وكذلك بيانات وزارة الخارجية. قبل بضعة أسابيع كرّر في زيارة له إلى الجزائر نفس الموقف، ما دعا الرئيس الجزائري إلى الرد عليه بالقول إن المطلوب هو دولة فلسطينية على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية وفق قرارات الشرعية الدولية، بل وأضاف أن «أي كلام غير هذا هو مضيعة للوقت»، ولم يرد الرئيس التونسي ولا أنصاره على هذا التعقيب المحرج.
المفارقة هنا أنه مقابل هذا الموقف «الثوري المبدئي» تأتي الحقائق لتسفّهه بالكامل وتجعله مجرد شعارات للمتاجرة السياسية ليس أكثر وإليكم بعض الأمثلة لا غير:
الرجل الذي بنى كل حملته الانتخابية على شعار التطبيع مع إسرائيل «خيانة عظمى»، ونجح في استقطاب الكثيرين بفضله، سعى جاهدا وقد أصبح رئيسا في منع برلمانه من تبني قانون لتجريم التطبيع معتبرا إياه «مهدّدا للمصالح الوطنية العليا» لبلاده و«كلاما انتخابيا» لا غير، كما نقل على لسانه علنا رئيس هذا البرلمان في جلسة شاهدها الجميع. الرجل لم يستقبل وفودا من «حماس» زارت تونس قبل وبعد حرب غزة حتى لا يثير غضب من تعرفونهم جيدا، الرجل عزل فورا مندوب تونس في الأمم المتحدة المنصف البعتي عام 2020 بمجرّد مكالمة هاتفية غاضبة من جاريد كوشنير صهر الرئيس ترامب لتبنيه ومساندته مشروع قرار فلسطينيا في مجلس الأمن. الرجل لم يدن إسرائيل ولا هو حمّلها مسؤولية الاعتداء على سفن «قافلة الصمود» الراسية على مقربة من قصره الرئاسي، كما فعل مسؤولون أجانب، بل إن وزارة داخليته اكتفت بوصفه بأنه «مدبّر» بعد تداولها رواية سخيفة روّجتها هي في البداية، بالتوازي مع أخرى أسخف منها روّجها أنصاره المبتذلون.
لم تقف الأمور عند هذا الحد بل إن تونس غابت الشهر الماضي عن التصويت في جلسة للجمعية العامة للأمم المتحدة لدعم حل الدولتين، في خروج عن إجماع عربي ودولي يريد الدفع في اتجاه أوسع تأييد ممكن لقيام دولة فلسطينية. وقد برّر أنصار الرئيس الشعبويون هذا الموقف بأنه رفض تونسي مشرّف للاعتراف بإسرائيل، مع أن الوفد التونسي يجلس معها في نيويورك وباقي المحافل الدولية ولم يمانع في الحضور إلى جانبها في فعاليات أخرى. مثل هذا الموقف لا يزايد على الفلسطينيين عامة الذين يطمحون في حق تقرير المصير وإقامة الدولة، ولو بالحد الأدنى المتاح حاليا رغم تعقيداته الكثيرة، وإنما يزايد على حركة «حماس» نفسها التي أعلنت مرارا قبولها بهذه الدولة بتلك المواصفات، بل ويزايد على يحيى السنوار نفسه الذي تبنى بعظمة لسانه الخيار ذاته في خطاب مسجل معروف!!.
من حق كل فلسطيني أن يتخذ الموقف الذي يراه مناسبا، خاصة المكلومين في غزة والمعذّبين في الضفة والمقهورين في الشتات، لكن أن يزايد عليهم جميعا آخرون، ممن أيديهم في الماء وليست في النار، فمسألة مستفزّة حقا، خاصة عندما تأتيك تلك المزايدة من جماعة الرئيس التونسي الذين وصلوا حد الاستخفاف بأسطول الصمود والمشاركين فيه، بل واعتبرت إحداهن من أعضاء برلمانه التخاطب باللاسلكي بين ناشط تونسي في إحدى قوارب هذا الأسطول والبحرية الإسرائيلية تطبيعا مرفوضا!!