
عودة إلى نقطة الصفر!
بيير لوي ريمون
حرير- دائما، بل دائما وأبدا، عندما يتم إدراج مصطلح أجنبي عن لغة الخطاب التي تتداوله، أبحث له عن ترجمة.
وهكذا بحثت عن ترجمة كلمة «سنابتشات»، والواقع أنني اجتهدت وعانيت، ليس لأن المعاجم الورقية أو الرقمية – لا فرق- لا توفر هذه الترجمة، بل العكس، لأن البحث عن الترجمة يجعلك، بعودتك إلى أصل الكلمة في لغة الخطاب الذي تكتب بها، ترفض زرعا إنكليزيا دخيلا يمنعك من التمعن في مراد المصطلح.
وهكذا عثرت على ترجمة لـ «سناب باك» تتناسب مع ما بدا لي وفيا لمعنى يراد إفادته من وراء الإجراءات التي قررت المجموعة الأوروبية اتخاذها ضد إيران قبل ساعات.
«عودة إلى نقطة الصفر»، تلك هي العبارة التي وجدتها. والواقع أنها أثارت إعجابي. إعجابي لأن العودة إلى نقطة الصفر يمكن أن تؤول تأويلين، أحدهما يفيد اتخاذ موقف متشدد وصارم ينجرّ عن فقدان ثقة بشخص، بعمل، بأداء، كما يستشف من بيان وزارة الخارجية الفرنسية الذي يشرح ما دعا «الثلاثية» (فرنسا، بريطانيا، ألمانيا) إلى العودة إلى فرض العقوبات. لكن «العودة إلى نقطة الصفر» يمكن أن تفيد أيضا معنى معاكسا، معنى اختبار الثقة من جديد بمنح فرصة ثانية.
من الواضح أن المجموعة الأوروبية هذه المرة لم ترجح هذا الخيار، على الأقل في الظاهر.
في الظاهر، لأن الدبلوماسية ظاهر وباطن وللباطن في الدبلوماسية تأثير في مجريات الأمور لا يقل عن الظاهر. قد ينظر البعض إلى «السناب باك» على أنه آلية لا تسمح ولا تترك مجالا إلا للتجميد. لكن ظاهر التجميد والشلل لا يكشف عادة عن الباطن نفسه، بل غالبا ما يناقضه.
هنا، طبعاً، تفيدنا العودة إلى مبدأ أساسي من دبلوماسية الباطن وهو أن مفاصل الملفات تحركها دبلوماسية الكواليس. لكن ليس فقط. لأن خصوصيات العمل الدبلوماسي في الشأن الإيراني مختلفة جذريا عن النهج الدبلوماسي التقليدي. أساسا لأن خطة العمل الشاملة المشتركة المنبثقة عن اتفاقية فيينا لم يتم تفعيلها بالطريقة التي خطط لها أصلا.
لا أتحدث هنا عن الخرق الإيراني لمعدلات التخصيب المسموحة، ولا عن الاتهامات التي وجهتها إيران للمجتمع الدولي بعدم التعهد بالتزاماته. هذه أيضا من أركان الدبلوماسية التقليدية. أتحدث هنا عن الخصوصيات التي أفرزتها المغادرة الأمريكية للاتفاق سنة 2018، وكأنها كرست وهيكلت، رغما عنها، منحى جديدا في التعامل الدبلوماسي لم يكن مسبوقا.
هنا، نتحدث عن المساحة التي تركتها أمريكا بأمر الواقع للدبلوماسية الأوروبية، مساحة ليتني سميتها بـ«هامش المناورة»، لكن على ضوء الواقع الراهن، كان لا بد من تعليق هذه التسمية. غير أن تعليق التسمية لا يعني إلغاءها بل بقاءها مفتوحة إلى حين كما تتيحه هذه المساحة، المساحة الدبلوماسية الأوروبية.
بكل تأكيد، الكل تمنّى لو أن أجهزة الطرد المركزي «فوردو»، «نطنز» و«أراك» اشتهرت بكونها تعمل على تخصيب اليورانيوم لأغراض مدنية، صناعية وطبية.
لكن هذا لم يتم، والسؤال الواقعي هنا ليس هل سيتم ذلك يوما بقدر ما يكون السؤال إلى أي حد تظل الدبلوماسية الأوروبية قادرة على ممارسة ما يكفي من الضغط ليبقى التصديق بقدراتها الواقعية والبراغماتية قائما.
«ماكرون يضغط لإعادة تفعيل المفاوضات»…تحت هذا العنوان، كتبت صحيفة لوموند عن لقاء الرئيسين ماكرون وبزشكيان في الأمم المتحدة قبيل العودة إلى العقوبات. الفرصة كان يتيحها السياق فعلا وحمل معه حدثا عرفه الجميع وتمنت المجموعة الأوروبية لو لم يدرج على أجندة الواقع: هذا الحدث هو «حرب الإثني عشر يوما».
لكن المنحى الأمريكي في معالجة الموضوع الإيراني غير المنحى الأوروبي. وحتى ولو كان مبدأ «السناب باك» غير مجد حتى الآن، لا يمكن القول بأن الفلسفة الأوروبية التفاوضية ليست كذلك. فالدول الأوروبية الموقعة على اتفاقية فيينا بقيت ملتزمة بثوابت معروفة:
فتح جولة جديدة من المفاوضات بهدف التوصل لاتفاق جديد.
ضمان عودة مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى مواقع التخصيب.
ضمان شفافية تامة عن مقدار اليورانيوم المخصب.
هنا، بودي الذهاب أبعد من «لعبة» العصا والجزر المطروحة المبتذلة المعروفة والتي مفادها أن «الكرة في مرمى الإيرانيين»، على حد تعبير وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو.
صحيح: مرة جديدة، لم يقبل الإيرانيون شروط الأوروبيين، وبالتالي لم يتمكن الأوروبيون من التقدم بقرار أممي جديد بهدف تأجيل العقوبات.
لكن ليس هذا هو الأهم، وإن كان يبدو كذلك.
الأهم الشق الثاني من كلام الوزير بارو، وهو التالي: « التوصل لاتفاقية ممكن دائما، قبل أو بعد السناب باك»..
طبعاً، تم تفعيل» السناب باك»، لكن مد وجزر العقوبات، ودوامة التلويح لا يمثلان حجر زاوية مسلسل تفاوضي. هناك فلسفة تفاوضية أوروبية تعرف كيف تراوح بين الخطاب الدبلوماسي الذي هو ظاهر وعرض لأنه عَلن، والعمل الدبلوماسي الذي هو باطن وجوهر لأنه كتمان.
الكرة صارت الآن في المرميين، الإيراني والأوروبي معا.
ولأننا عدنا إلى نقطة الصفر، فالمقابلة لم تحسم بعد.