
فينيسيا 82» … حين تتحول السينما إلى ضمير العالم
المطلوب أن يتحرك المخرجون وكتاب السيناريو والمنتجون العرب ليحوّلوا الكاميرا إلى سلاح مقاومة
يحيى بركات
ساعات قليلة تفصلنا عن انطلاق عروض النسخة الثانية والثمانين من «مهرجان فينيسيا السينمائي»، أعرق المهرجانات وأكثرها إثارة للجدل. افتتاح هذه الدورة سيكون مع الفيلم المرتقب «La grazia» للمخرج الإيطالي الكبير باولو سورينتينو، لتبدأ أيام حافلة بالحماس والتنافس، يجتمع فيها كبار المخرجين بأحدث إبداعاتهم، وتُفتح سجادة الليدو الحمراء على أسئلة ليست فنية فحسب، بل سياسية وأخلاقية أيضًا.
هند رجب على السجادة الحمراء
من بين كل الأصوات التي ستطل من شاشات المهرجان، يتصدر فيلم «صوت هند رجب» للمخرجة التونسية كوثر بن هنية المشهد. فيلم يُعيد بناء واحدة من أبشع جرائم الحرب في غزة: مأساة الطفلة هند، ست سنوات فقط، التي ظلت محاصرة في السيارة بعد مقتل عائلتها، تتصل بالهلال الأحمر وتصف ما تراه حولها — الجثث، الدبابات، الرصاص الذي منع سيارات الإسعاف من الوصول إليها.
بعد ثلاث ساعات ونصف من الاستغاثة، عاد جيش الاحتلال ليمطر السيارة بأكثر من 330 رصاصة، حتى انقطع صوتها إلى الأبد. تلك المكالمة المسجّلة بقيت شاهدًا دامغًا على الفاشية العسكرية، وحين تتحول إلى فيلم، فإنها تصبح ذاكرة حيّة تُعرض أمام ضمير العالم كله.
صوت واحد… وعشرات آلاف الصمت
لكن هند لم تكن وحدها. فهذه الحرب أبادت ما يزيد على عشرين ألف طفل فلسطيني، لم يسمع العالم أصواتهم، ولم تُسجَّل لهم مكالمات تُخلّد اللحظة. رحلوا بصمت تحت الركام أو في حضن أمهاتهم أو وهم يبحثون عن لقمة خبز، مثل الطفلة التي التقطت الكاميرات صورتها قبل أن يغتالها صاروخ.
بهذا يصبح صوت هند صوتًا استثنائيًا ينطق باسم الطفولة المذبوحة بأكملها، ويمنح السينما فرصة أن تنوب عن الصامتين.
حضور فلسطيني رمزي
المشاركة الفلسطينية في «فينيسيا 82» ليست غزيرة عددًا، لكنها عميقة المعنى. إلى جانب «صوت هند رجب» الذي جاء بإنتاج تونسي–فرنسي ودعم من نجوم عالميين، يعرض فيلم قصير للمخرج الفلسطيني سعيد زاغة بعنوان «Coyotes» ضمن قسم Orizzonti Shorts، حيث يروي حكاية جراحة فلسطينية على طريق مهجور في الضفة الغربية.
ورغم أن المشاركة تبدو رمزية أكثر منها إنتاجية واسعة، فإنها كافية لتجعل من فلسطين العنوان المركزي للمهرجان، ولتُحيل السجادة الحمراء إلى ساحة مواجهة مع الذاكرة والضمير.
بين السياسة والفن
اختيار فيلم عن جريمة موثقة في غزة لم يمر مرور الكرام. أكثر من 1500 سينمائي ومخرج عالمي — من بينهم كين لوتش وماتيو غارونه — وقّعوا رسالة مفتوحة يطالبون فيها المهرجان باتخاذ موقف واضح ضد «الإبادة في غزة»، وبوقف دعوات بعض الممثلين الداعمين للاحتلال.
مدير المهرجان ألبرتو باربيرا ردّ بأن «المهرجان محايد»، لكنه أضاف أن إشراك فيلم «صوت هند رجب» في المسابقة الرسمية هو دليل على حساسية المهرجان تجاه المأساة الفلسطينية. هكذا تحوّل الفيلم إلى أكثر من عمل فني: إلى موقف سياسي معلن على السجادة الحمراء.
السينما العالمية أمام امتحان غزة
وجود أسماء هوليوودية كبرى مثل براد بيت، خواكين فينيكس، ألفونسو كوارون وروني مارا بين داعمي الفيلم لم يأتِ من فراغ. فالإبادة في غزة تُبث مباشرة على الهواء، وأمام هذا الفيض من الجرائم التي يتباهى بها قادة الاحتلال باعتبارها «إنجازات»، لم يعد ممكنًا للسينما العالمية أن تقف على الحياد.
هنا يتغير معنى النجومية نفسها: هل يبقى الفنان متفرجًا، أم ينحاز للبراءة المقتولة؟ وهل تبقى السينما ترفيهًا، أم تتحول إلى سلاح ذاكرة ومساءلة؟
جدار من الذاكرة الحية
«صوت هند رجب» ليس فيلمًا عن طفلة رحلت فقط، بل عن طفولة سُرقت، وذاكرة جماعية لشعب يتعرض للإبادة. إنه وثيقة بصرية تُضاف إلى سجل الجرائم ضد الإنسانية، وتجعل من السينما شاهدًا لا يموت، ذاكرة عصيّة على المحو مهما تعاقبت المذابح.
نحو الأوسكار… ونحو العدالة
اختيار تونس لهذا الفيلم ليمثلها في سباق الأوسكار ليس تكريمًا فنيًا وحسب، بل إعلان أن دم هند لن يُنسى، وأن حكايتها ستُروى على أكبر المنابر العالمية. إنه نصر للسينما حين تتحول إلى مرآة للعدالة، وللثقافة حين تصبح سلاح مقاومة، وللإنسانية حين ترفض الصمت والتواطؤ.
نداء إلى السينمائيين العرب
إذا كان نجوم هوليوود وأوروبا قد تجرأوا على اتخاذ مواقف علنية، فهذا لأن السينما في جوهرها ضمير الإنسانية. ومن يبقى متفرجًا اليوم، يضع نفسه خارج مسار التاريخ.
لا يجب أن يظل فيلم كوثر بن هنية وحيدًا في مواجهة جرائم الحرب، ولا يجب أن يبقى دعم النجوم العالميين الصوت الأعلى، بينما يكتفي صناع السينما العرب بالمشاهدة.
المطلوب أن يتحرك المخرجون وكتاب السيناريو والمنتجون العرب ليحوّلوا الكاميرا إلى سلاح مقاومة، وأن تنهض المؤسسات الثقافية الفلسطينية والعربية من موقع المؤيد إلى موقع المبادر: إنتاج أفلام، مسرحيات، معارض فنية، موسيقى، ورقص تعبيري وشعبي.
هذه معركة لا يمكن أن نخسرها، لأنها مبنية على جذور تاريخية راسخة، في مواجهة كيان زائف بُني على الأسطورة والخرافة، وعلى أحلام نتنياهو في «إسرائيل الكبرى». إنها ساعة السينما العربية لتقف في المقدمة، وتكتب التاريخ بالصوت والصورة، لا على الهامش ولا في الظل.
في زمن تُحاول فيه الدبابات والرصاص محو الأصوات، تأتي السينما لتُعيد لها صداها، وللحقيقة نورها.
«فينيسيا 82» يشهد هذا العام أن فلسطين ليست ضيفًا عابرًا، بل القضية المركزية للسينما والضمير الإنساني.
إنه النداء الأخير: لا صمت بعد اليوم، لا حياد، ولا مكان للمتفرجين.
> يحيى بركات – مخرج وكاتب سينمائي
#Venezia82 #صوت_هند_رجب #السينما_ذاكرة #غزة #جرائم_الاحتلال