رهاب اليسار: الطفح الأيديولوجي في أيامنا

وسام سعادة

حرير- قديماً، كانت لجوزيف ستالين مقولة، من نوع أنّ الصراع الطبقي يزداد ضراوة كلما جرى التقدم في بناء الاشتراكية. في أيامنا ثمة تقليعة جديدة. رُهاب اليسار يزداد سماجةً ولوكاً للتخريجات الجاهزة التعميمية نفسها كلما اندثر اليسار أو تلاشى، وكلما «تيامن» العالم أكثر.

بعض من هذا الرهاب يسوّق لنفسه بداعي التأسف على تركة اليسار نفسه وانحطاطها من صراع الطبقات إلى مكابدات الهوية، وبعضه الآخر لا يرى كبير فارق بين يسار الحرب الباردة وما بعدها.

يحدث هذا بعد عقود طويلة على دخول الأفكار والحركات الاشتراكية حقبة انكماشها في سبعينيات القرن الماضي، ثم انهيار المنظومة السوفياتية أواخر الثمانينيات. هل يمكن بجد عزو التخبط في الأنساق الاقتصادية العالمية في العقود الأخيرة الى أي «يسار» كان؟

هل هناك بجدية في عصرنا ما يمكن التمايز فيه بين يسار ويمين على صعيد السياسات الاقتصادية إن وصل هذا أو ذاك إلى السلطة بالانتخاب؟

وإذا كان الاستقطاب بين يمين ويسار بات يقتصر على الدلالات والإيحاءات وليس لا البنى الاجتماعية ولا أنماط ووسائط العيش، هل يمكن النظر إلى «رهاب اليسار» في خارج نطاق حاجة اليمين نفسه إلى «الرهاب من أجل الرهاب» ومغادرته آذاك لأبرز منجزات الفكر الليبرالي الكلاسيكي: التحرر من الخوف، الانفكاك عن الخوف كمصدر لكل تسويغ سياسي. الرهاب من أجل الرهاب ينم عن مجافاة لليبرالية الكلاسيكية أكثر مما ينم عن مجافاة للماركسية وغيرها من المصادر الفكرية لليسار عبر العالم.

لا يلغي ذلك في المقابل واقعة أن هذه الكثافة من اليساروفوبيا لا تكفي هي الأخرى لتسويغ الحاجة الى اليسار. بالعكس، بعض من هذه اليساروفوبيا يمت بذي صلة إلى الصعوبة في تقبل الانزياح من عصر إلى آخر. الأدهى هو الوقوع في هذا النوع من الدوران التبليدي للعقول. على سبيل المثال: ملامة لا آخر لها لأن اليسار في إيران مثلا لم يتحرك بشكل استباقي لقطع الطريق على الخميني بل جاراه، وفي المقام الآخر تحويل تنكيل الإسلامويين بحزب توده الشيوعي الإيراني إلى برهان أساسي مستعاد ليلا نهار حول السمة الرجعية لنظام يبطش بالتقدميين.

يجد اليسار الانتخابي غير الشعبوي صعوبة حيثما ينافس على السلطة عبر العالم ليوجد بالفعل برنامجا شاملا يختلف في منطق اتساقه واشتغاله وكيفية وضعه الأمور على محك التجربة عن اليمين. ويجد اليسار الانتخابي الشعبوي في المقابل صعوبة في عدم التواطؤ مع ما تجترحه الشعبوية اليمينية من جحود بالمؤسسات الدستورية وحاكمية القانون والحقوق الفردية. تتكاثر هنا وهناك دعوات لإصلاح اليسار. وهذه عادة مكررة بشكل مريع منذ نهاية الحرب الباردة. تريده أكثر ديمقراطية وتشاركية وتعددية وإنسانوية وبيئوية ونسوية، وتقدم كل هذه الاعتبارات العامة عن السؤال حول الفاعلية في وضع معين. لكن هل بالفعل ثمة حاجة الى مفهوم اليسار؟ هذه الحاجة تبدو مفتعلة، الى حد كبير، مثلها في هذا مثل احتقانات اليساروفوبيا.

ليس بديهيا أن تكون لمفهوم اليسار حاجة. أقله ليس بديهيا أن تكون له حاجة في كل وقت. لا ينفع أن تبدأ بتعريف مرادك على أنه الاتجاه نحو اليسار ثم تهدر وقتك في البحث عن تعاريف لهذا اليسار ومن ثم عن عناوين برنامجية لتحريكه وإكسابه معنى. الأفضل أن يحصل العكس. تبدأ من المقاربة الملموسة للمشكلات التي يعاني منها أو تتعلق بها مصالح العدد الأكبر من الناس في مجتمع ما ثم، وفي مجرى تطويرك للمقاربات والتشخيصات والمعالجات تنظر إذا ما كان طرحك فيه استمرارية منهجية لليسار في تراكمه النضالي والإيديولوجي لقرنين سابقين أو لا تجد مثل هذه الاستمرارية إلا بشكل محدود.

ما لا يمكن القفز عليه في المقابل هو أن اليساروفوبيا باتت عنوانا لفرض «نظرة هزلية للعالم». من نوع أن العالم كان ليكون على ما يرام لولا أن الشيطان اليساري بث في الناس الضلال بأن هذا العالم ظالم ومظلم. مع التجاهل الفظ الى أن التراث الأكثر حيوية وثورية في تاريخ اليسار في القرنين الماضيين، الماركسية، لم ينظر إلى العالم على أنه بحد ذاته سيئ، بالعكس، تشاركت الماركسية مع الليبرالية النزعة التفاؤلية التي رأت أن العالم يزداد عدلاً وجمالا وحرية كلما زاد فيه الاحتكام إلى العقل والارتكاز إلى العلوم. مشكلة الماركسية هي في الغلو في هذا التفاؤل وليس في التنديد بالظلامات في العالم. ماركسية أكثر قدرة على استيعاب التشاؤم والحاجة إليه يمكنها أن تدفع في المقابل الى إعادة تحيين وتأسيس مفهوم التقدم. والحال أن مفهوم التقدم أجدى محاولة إعادة التقاطه من استنزاف كل نقاش حول مفهوم اليسار نفسه، مع الوقوع في أحابيل «رهاب اليسار»: توهم أن هذا الرهاب يكشف عن خطورة اليسار كفكرة حتى ولو انعدم كواقع نضالي. ليس صحيحا. اليمين الشعبوي «يخترع» هذا اليسار الخرافي بالنسبة إلى أيامنا. ليس لأنه خائف من «اليسار الحقيقي». بل لأنه كيمين يعلم علم اليقين بأنه لا يملك أي معالجة جدية لما يطرحه هو قبل سواه من أولويات متصلة بالديموغرافيا والهوية والأمن والأمان. هذا ناهيك عن تآكل أرضية أي نقاش انطلاقا من مواقعه حول التحديات البيئية الاجتماعية، على صعيد الكوكب ككل وفي كل بلد مأخوذ على حدة.

مقالات ذات صلة