
على روسيا قبول السلام مع أوكرانيا لهذه الأسباب؟
د. جيرار ديب
حرير- أقرّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أن عقد لقاء بين الرئيس الروسي بوتين، ونظيره الأوكراني، زيلينسكي، يبدو «بالغ الصعوبة»، مشبهًا محاولة الجمع بينهما بمحاولة «خلط الزيت بالماء».
قرأ البعض في تصريحات ترامب هذه، إرباكا لإدارته في وقف الحرب الدائرة في شرق أوروبا، التي بدأها الجيش الروسي في 24 فبراير 2022، تحت مسمى «عملية عسكرية خاصة» لتحقيق أهداف دقيقة. هذا الإقرار الترامبي يأتي بعدما تهافتت عناوين الصحف بعد القمة، التي جمعت الرئيسين بوتين وترامب في ولاية ألاسكا الأمريكية والتي عقدت في 15 أغسطس الجاري، حيث ذهبت مختلف التحاليل إلى اعتبارها هزيمة مدويّة لأمريكا وانتصارا واضحا لروسيا في حربها على أوكرانيا، التي شارفت على دخولها عامها الرابع، ولكن هل فعلا هذا ما تجب قراءته؟
على ما يبدو، لن «يدخل الجنة» ترامب، إن كان الرهان على تحقيق السلام في أوكرانيا، فالحرب هناك طويلة ومعقدة وذات أبعاد استراتيجية، إذ لا تقف عند حدود مقاطعة دونباس، ولا على الرغبة الروسية باستحصال اعتراف دولي بضمّ جزيرة القرم إلى الأراضي الروسية. فالحرب بدأت لا كي تنتهي بتسوية، وهي لا تتشابه مع حروب ادعى ترامب أنه أخمد نيرانها، كتلك التي نشبت بين إيران وإسرائيل، أو بين الهند وباكستان على سبيل المثال.
حرب أوكرانيا لها تتابعات على الساحة العالمية، فإن عدنا إلى التوتر المستجد بين الهند والولايات المتحدة، سنجده الأكثر وضوحا، ففي حين يذهب الجميع في تأكيده أن في خفايا الحرب التي تخوضها إسرائيل في الشرق الأوسط بغطاء أمريكي واضح، هناك هدف يعمل الإسرائيلي على تحقيقه، وهو يرتبط ببناء ممر اتفق على تعبيده مسبقا في نيودلهي في 10 سبتمبر 2023، هو الممر الاقتصادي الهندي الذي يجعل من الشرق الأوسط نقطة وصل بين جنوب آسيا والعمق الأوروبي. لكنّ التطور الذي حصل مع إصدار ترامب قرارا برفع الرسوم الجمركية على الواردات السلعية لبلاده من الهند، لتصل إلى 50% شكّل المفاجأة، خصوصا بعدما أدرك المتابع أن السبب يرتبط بعدم الموافقة الهندية على طلب أمريكي بتصفير الاستيراد النفطي من روسيا.
مع بداية الحرب في أوكرانيا وتوالي العقوبات الغربية على روسيا، وفرض مقاطعة شبه تامة، أخذت موسكو خيار التوجه شرقا في نيّة واضحة لاستبدال أسواقها التجارية مع بلوغ عدد العقوبات الغربية عليها 24 ألفا. هذا الأمر شكل حبل نجاة للاقتصاد الروسي المتعثر، من خلال القدرة على استمرار تمويل ميزانية الحرب، حتى لو كانت أسعار نفطها أدنى من السعر الذي فرضه الغرب وهو 60 دولارا للبرميل الواحد، لتجفيف إيرادات روسيا النفطية، التي تبلغ حوالي 30% من ناتجها القومي. استفادة الهند من الحاجة الروسية لبيع نفطها وغازها، ليس فقط لتعزيز القدرة التنافسية لسلعها، من خلال خفض كلفة الإنتاج وحسب، بل ذهبت نيودلهي لتراكم أرباحها من خلال بيع النفط الروسي بأسعار أغلى مما تشتريه، حسبما أشار إليه وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسنت، في مقابلة مع شبكة «سي. إن. بي».
وكما الهند كذلك الصين، فهي أيضا لم تلتزم بالقرار الأيمركي بوقف استيراد النفط والغاز الروسيين، الأمر الذي دفع واشنطن إلى التفتيش عن بديل تعتمده لتعطيل حركة التصدير الروسي، لحثّ موسكو في التفكير «مرغمة» لوقف عملياتها العسكرية في أوكرانيا، وإلى تقليص شروطها التفاوضية. أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في مقابلة مع شبكة «إن بي سي» الأمريكية، الجمعة 21 أغسطس، أن «لا خطة لعقد لقاء مع الرئيس الأوكراني». إن فشل تحديد اللقاء الثلاثي بين ترامب وزيلينسكي وبوتين، ومع التدخل الأوروبي على خطّ التسوية، عزّز أيضا موقف زيلينسكي وحسّن شروط التفاوض، وسط استمرار الضربات المتبادلة بين طرفي النزاع، وتصاعد وتيرتها، لاسيما مع ما تمّ الكشف عنه من تطور مذهل في الصناعة العسكرية الأوكرانية.
كشفت كييف عن صاروخ جديد يعدّ الأسرع في ترسانتها الصاروخية، حيث يمكنه ضرب أهداف في العمق الروسي. وهذا الصاروخ من نوع كروز، ويطلق عليه اسم «فلامنغو FP-5» ويستطيع حمل رأس حربي يزيد وزنه عن طن واحد، والطيران لمسافة تتجاوز 3000 كلم. اللافت أنه تمّ تطوير هذا الصاروخ بالكامل في أوكرانيا، وأنتجته شركة الدفاع الأوكرانية «فاير بوينت»، واستغرق تطويره من الفكرة إلى إخضاعه لأول اختبار في ساحة المعركة 9 أشهر، وفقا للرئيسة التنفيذية والمديرة التقنية للشرطة إيرينا تيرخ.
لم يستطع ترامب فرض قراره على حليفه الهندي ولا على عدوه الصيني، ولكنّ ما استطاع فعله هو تغيير التكتيك عبر دفع واشنطن كييف سرا، إلى توجيه ضربات قاضية على مصافي الطاقة وأنابيب التصدير في العمق الروسي، كما في المقاطعات التي احتلها الجيش الروسي مع بدء عمليته الخاصة. خلال الأسابيع القليلة الماضية، عادت الضربات الأوكرانية تطال مصافي النفط ومحطات الغاز الروسية، على كامل أراضي المقاطعات المجاورة للحدود الأوكرانية، وحتى البعيدة مع الإعلان عن الصاروخ «فلامنغو». وركزت الضربات المتكررة على عدة مصاف في مقاطعة فولغوغرادن أهمها، محطة تابعة لشركة «لوك أويل» تعدّ من أكبر 10 محطات في روسيا. كما استهدفت عدة مصاف في إقليم كراسنوادر، أبرزها «أفيبسكي» و»إيليا» و»نوفوكويبيشيفسك» و»سيزران» واستهدفت أخرى في مقاطعات ومناطق ومدن ساراتوف وتفير وغيرها، إضافة إلى محطة لمعالجة الغاز الطبيعي في أستراخان. وضربت مسيرات كييف خطوطا لنقل النفط والغاز، ومحطات قطارات لشحن الوقود ومحطات ضخ على أراضي روسيا، وكذلك داخل الأراضي الخاضعة لسيطرة موسكو، لقد باتت مثل هذه الضربات شبه يومية، وتفسرها البيانات الصادرة عن الهيئة بالقول، إن «المصافي تزود جيش الاحتلال الروسي، بالوقود بهدف عرقلة سير العملية العسكرية، عبر ضرب مصادر الوقود للجيش الروسي لشلّ حركة تنقلاته. ممارسة المزيد من الضغط على روسيا عبر ضرب محطات الطاقة، حيث تسبب هجوم بمسيرة أوكرانية، الأحد 24 أغسطس الجاري، في اندلاع حريق قصير الأمد بمحطة كورسك الروسية للطاقة النووية.
باتت واضحة الأهداف الأوكرانية ذات الخلفية الأمريكية، من هذه الحرب، التي رفض رئيسها التخلي عن أي شبر من أرض بلاده، لذلك توجه إلى تغيير في قواعد الحرب، من إلحاق الأذى بالعسكر إلى ضرب اقتصاد روسيا، من خلال تعطيل مصادر تصدير النفط، او حتى عرقلة سير العملية والتأثير على الحياة العامة للمواطنين الروس لحثهم على الانتفاضة على النظام في روسيا لوقف الحرب، فهل سيدفع ذلك موسكو إلى اتخاذ خيار التفاوض مرغمة، تحت وطأة الضربات المتزايدة على مصادر الطاقة؟ أم لها عنوان آخر للحرب لم تزل تحتفظ به كما كان حالها في التحايل على العقوبات الغربية؟