المحكمة العليا الإسرائيلية «ضحية» الشر الذي صنعته

حرير- نشرت وسائل الإعلام العبرية مؤخرا نبأ مفاده، أن رئيس المحكمة العليا الإسرائيلية، القاضي يتسحاك عميت، قرر التوجه إلى جهات من القطاع الخاص متخصصة في تقديم الاستشارات الاستراتيجية، والاستعانة بهم لحماية وتعزيز مكانة الجهاز القضائي، لاسيما مكانة المحكمة العليا. جاء قرار القاضي عميت هذا بعد نجاح حكومة نتنياهو الحالية، المدعومة من أكثرية برلمانية يمينية مطلقة، بتنفيذ مخططاتها وفق ما سموه «خطة الإصلاح القضائي»، وهي التسمية المموّهة لعملية الانقلاب السياسي وترسيخ حكم ديكتاتوري، لا يقبل ولا يعترف بضرورة المحافظة على مبدأ فصل السلطات: التشريعية والتنفيذية والقضائية، وعمَل منظومات رقابة قانونية أو إدارية، من شأنها أن تحدّ من سلطة النظام الحاكم المطلقة.

حاولتُ أن أستوعب دوافع القرار المضحك، لولا مأساويته، فهذه الخطوة تشكّل، برأيي، اعترافا بهزيمة الجهاز القضائي وإعلانا عن سقوطه أمام القوى اليمينية التي نجحت في الاستيلاء على معظم مراكز القوة في الدولة.

لم تبدأ «محنة» المحكمة العليا في الآونة الأخيرة؛ وهذه الحقيقة يعرفها القاضي عميت، بل عاشها منذ تعيينه قاضيا في المحكمة العليا عام 2009؛ لكنه بدل أن يختار، هو وزملاؤه القضاة، مواجهتها، تساوقوا مع مسبباتها وشاركوا في تخميرها وتغذيتها، حتى تحوّلت إلى أزمة مزمنة مستعصية لا «خللا في التسويق» أو «تشويشا في الاستراتيجيات» قد تجد لها حلاً، كما يأمل، في نصائح سيقدمها خبراء في الإعلام أو الاستراتيجيات، القادمين من «السوق». إنها أزمة جوهرية راحت تحتل لبّ المنظومة، مذ تخلّى قضاة المحكمة العليا عن ضمائرهم الإنسانية، وعن واجبهم بالالتزام بقواعد العدالة الكونية، وعن التزامهم بمبادئ المساواة الحقيقية وحماية حقوق الإنسان الأساسية، سواء كان ذلك تجاه المواطنين الفلسطينيين داخل إسرائيل، أو بشكل أوضح، تجاه فلسطينيي الأراضي المحتلة. لقد سمع القاضي عميت، وقبله كل قضاة المحكمة العليا الإسرائيلية، مواقفنا في هذه المسألة ومخاطرها على مكانة محكمتهم؛ لكنه اختار، كما اختار الذين سبقوه، أن يقف إلى جانب الغطرسة والقمع. وكانوا يسخرون مما نقوله ويرفضونه، باللجوء إلى معادلاتهم التبريرية مرة باسم «تناسبية الظلم»، ومرة باسم «حجة المعقولية» ومرة باسم «ذريعة الأمن وسلامة الجمهور». هكذا، على امتداد عقود من العنصرية والاحتلال، شارك الجهاز القضائي الإسرائيلي في صناعة الشر وتوليد مفاعلاته التي باتت اليوم تشكل خطرا جديا على استمرارية وجوده. لم تعنِهم دروس التاريخ ولا عبره التي نقلها الناجون من براثنه؛ أولئك الذين علمونا أن الشر لا يتمظهر بالضرورة بوحشيته، ولا يستقوي بها دائما، بل قد يكون أحيانا «عاديا» يتغذى من لا مبالة «غير الشريرين» ومن طاعتهم، اللينة المتواطئة مع صنّاعه، واعتيادهم على أنظمة ترتكب الظلم باسم النظام؛ فأبناء «الأكثرية اليهودية»، التي أراد الجهاز القضائي «حماية أمنها وسلامتها»، كانوا يذوّتون خلاصات عدلها المقنّع، كما ذوتتها قبلهم الشعوب التي أصبحت جزءا من آلة الشر المطلق، وساهمت في جرائمها الكبرى. هكذا كان بعد كل قتل فلسطينيي لم يعاقب قاتله، وبعد كل طرد تجمع سكاني فلسطيني باسم «شيفرات عدل مزيفة» وتثبيت حق اليهود في «أرض الميعاد»، وبعد كل قرار قضائي أجاز ممارسات وقوانين الاحتلال وأنظمته الجائرة. وهكذا كان بعد كل قرار أجاز بموجبه القضاة مصادرة أراضي المواطنين العرب داخل إسرائيل، وأطلق يد سلطات الدولة في هدم بيوت الفلسطينيين، أو طردهم وإبعادهم عن وطنهم.

إنه «منطق الشر» الذي ينساب «بطبيعية خبيثة» وبعنصرية تجسّد قانون السيّد حيال «عبيده». فمثل فلسطينيي الأراضي المحتلة وقبل عام 1967، عانى المواطنون العرب في إسرائيل، حين وجدوا أنفسهم عراة أمام رماح مؤسسات الدولة العنصرية وعُزّلا من دون حماية جهاز قضائي، بل ضحايا تواطئه أحيانا مع سياسات القمع والاضطهاد العنصري. أزمة محكمة القاضي عميت ليست بحاجة إلى مستشارين ولا لمتخصصين في تفسير القوانين وترتيب «تناطح» الصلاحيات. إنها أزمة «القانون الأساس» الأول، الذي وضعوه بأنفسهم، وعاملوا بموجبه المواطنين الفلسطينيين داخل إسرائيل كأنهم دخلاء لا يمكن الوثوق بهم وغير جديرين بالعيش كمواطنين كاملين. إنها ثمرة «الخطيئة الأولى»، التي دفنت نطفها الخبيثة في قرارات قضائية جائرة، ثم أعقبتها تداعيات «الخطيئة الكبرى»، خطيئة الاحتلال الذي حوّل المجتمع الإسرائيلي إلى مسخ، وأنتج نظاما سياسيا يأمر وينهي ويحكم باسم الشعب، أو إن شئتم باسم الرب أيضا.

لا أكتب اليوم رسالة موجهة إلى القاضي يتسحاق عميت، لأنني على يقين بأنه لا يؤمن بأن الاستعانة بمستشارين، أيا كانت صفاتهم ومؤهلاتهم وقدراتهم، سوف تسعفه وتنجيه من مصيره، ومصير محكمته المحتوم. فهو يعلم في قرارة نفسه أنه قد هزم، وأن المحكمة ستسلم قريبا أوراق استسلامها أمام حكام «مملكة إسرائيل الجديدة» في طقوس علنية. لقد كتبت رسالتي المفتوحة الأولى لرئيسة محكمة العدل العليا الإسرائيلية دوريت بينش عام 2010، وأتبعتها بخمس رسائل أخرى، كان آخرها للقاضي عميت نفسه عام 2021 وفيها قلت: «نحن، المواطنين العرب في إسرائيل، نرى أن المعركة الجارية على عتبات محكمتكم العليا هي آخر المعارك التي تخوضها قطعان الهضاب من المستوطنين وزعمائهم وغلاة المتطرفين المتدينين، ضد مؤسسات «الدولة البنغورينية» القديمة. وهذا ما حاولتُ طيلة سني عملي أمام محكمتكم، لاسيما في العقدين الأخيرين، أن أنبّهكم منه، ومن خطورة ما يجري داخل الدولة، ومن كونكم أحد الأحصنة التي تجر عرباتها نحو الهاوية. لكنكم أعرضتم وكنتم منشغلين بتأكيد انتصاراتكم على أعدائكم الواضحين، الفلسطينيين الذين هناك، وإخوانهم الذين هنا، فهذه المهمة هي الأسهل عليكم ونتائجها تكون دائما مضمونة. أتمنى أن تكون قد قرأت ما كتبته في رسائلي السابقة إليكم؛ فقصتنا، نحن العرب، مع جهازكم القضائي طويلة وجديرة بأن تُستقصى من بداياتها، التي كانت قبل ولادتي كعربي بسنين قليلة، وقبل ولادتك كيهودي بالطبع. فأنت ومجايلوك من القضاة ورثتم مساطر عدل مشوّهة ومفاهيم منمّطة حول نظريات «الأمن» «والولاء» وتصنيف الضحايا والحلفاء، لكنكم تساوقتم معها وتسربلتموها كجنود في ساحات المعارك، حين يطوّعون كل القيم الإنسانية في سبيل النصر، حتى لو كان على مواطنين في الدولة، لأنهم صاروا في أعين الأجهزة القضائية، كما كانوا في أعين المؤسستين الأمنية والسياسية، لا أكثر من أجسام مشبوهة أو ألغام مزروعة على طريق الدولة اليهودية.

فهل ستقرّون يوما بأن قضاة يحتمون بحراس يرافقونهم حتى أبواب غرف نومهم، لن يقووا على مواجهة القتلة والعُصاة، وبأن جهازا قضائيا لا يميز بين الضحية الحقيقية وجلّادها، أو يخاف أن يميّز بينهما، لن يحمي جلده حتى إذا تراجع أعضاؤه خوفا أو انحنوا وطأطأوا رؤوسهم إذعانا للكهنة والفاشيين؟ لقد قصصت عليكم مرارا قصة «الثور الأبيض» وهي، كما حاولت أن أفهمكم، حكمة دماء الضحية الناجزة وهي تروى لضحية تنتظر على خطوط التماس». اليوم وأنا أقرأ كيف تتلمس طرق نجاتك بخيارات عبثية ولا أقول مضحكة، اتمنى عليك أن تتعظ، ما دام في قناديل التاريخ زيت؛ فانتم لستم بحاجة إلى مستشارين في الاستراتيجيات، بل بحاجة إلى ضمير والى من يقول بجرأة ويذكركم أن العدالة ليست مجرد التعاطي مع تقنيات قانونية صنمية وفذلكات تحركها أيديولوجيات عنصرية، بل هي واجب ومسؤولية للعمل باسم القيم الإنسانية الأولى وباسم سيادة القانون المنصف العادل والدفاع عن كرامة الانسان، كونه إنسانا. لقد تغاضت مؤسستكم طيلة عقود عن جميع هذه القيم حتى استوحش الشر وخرج عن عباءة عاديّته، فاستشاط غضبا وشراسة ونهما، حتى وصلت نيرانه إلى أحراجكم، ولن يقول بعد اليوم «حتى هنا». أكتب وأنا أقف قبلك على شفا الهاوية، وأعرف من سيُدفع إلى جوفها بعدنا.

مقالات ذات صلة