
الصفقة المرتقبة… إذعان نتنياهو أم ضغط ترامب؟
أحمد عويدات
حرير- أخيراً حدث وبحذر ما انتظره الغزاويون والعالم بأسره، وابتسم على استحياء القانون الدولي الإنساني، وهدأ مؤقتاً بال الهيئات والمنظمات الحقوقية والإنسانية الأممية، تلك التي لم تقوَ على فعل شيء سوى الإدانة والاستنكار لجرائم سيد الإبادة نتنياهو. وساد الصمت دوائر الدول غربها وشرقها إزاء هذا التطور الإسرائيلي الجديد. وأخيراً قرر نازي القرن النزول عن الشجرة، وأعرب عن استعداده «الجدي» لإبرام صفقة تبادل مع المقاومة، معتبراً «أنه قد لا تكون هناك فرصة أفضل من هذه لعقد الصفقة».
لكن الغزاويون الضحايا الثكالى واليتامى والمكلومون، حبسوا أنفاسهم ولم ينبسوا ببنت شفة، خشية صعوده ثانية إلى الشجرة فتتلاشى معه كل التوقعات والأحلام والتفاؤل؛ لأن العالم اعتاد على سلوك وتصرف سيد الإبادة، الذي استمر بحربه أكثر من اثنين وعشرين شهراً، هذا السلوك ذاته من المناورة والخداع بالمفاوضات التي شهدت عشرات الجولات، وتضليل المجتمع الدولي والإسرائيلي تحت ذرائع واهية بإفشالها واتهام الطرف الآخر بالتعطيل. السؤال الذي يدور في أذهان المتابعين والمحللين: لماذا هذا التغيير المفاجئ في موقف نتنياهو، خاصةً وحكومته اليمينية المتطرفة عموماً؟ لا شك أن في ذلك عوامل عديدة يمكن تصنيفها داخلية وخارجية وشخصية وموضوعية.
العامل الأول والأهم، عدم وجود إنجازات عسكرية والفشل في تحقيق الأهداف، خاصة بعد العملية المسماة «عربات جدعون» وضراوة المعارك والمواجهات مؤخراً بفعل العمليات النوعية المتميزة قوةً وتكتيكاً وتسليحاً وجرأةً وتأثيراً ونتائج، التي أوقعت أعداداً كبيرةً من القتلى والمصابين، في صفوف قوات الهندسة والخاصة والنخبة الإسرائيلية، وأربكت القيادة العسكرية، حتى ذهب بعضهم وعلى رأسهم رئيس الأركان زامير، للمطالبة «بعدم توسيع العملية البرية، خشية على أرواح الجنود وعلى حياة الأسرى». هذه العمليات التي أظهرت جرأة وشجاعة وقوة المقاومة المتصاعدة، وثباتها وتماسكها وصمودها الأسطوري، واستعدادها لخوض غمار حرب استنزاف طويلة الأمد، أمام حالة التململ والعصيان، والانهيار النفسي للقوات الغازية.
والعامل الآخر الأبرز يتمثل في الضغط الشعبي الإسرائيلي الداخلي المتواصل منذ بداية الحرب، من قبل عوائل الأسرى الإسرائيليين، والمطالبين بإبرام صفقة تبادل، وعدم تفويت الفرصة السانحة الآن. يضاف إلى ذلك ضغط معظم الأحزاب والقوى الإسرائيلية المجتمعية، وشخصيات كبيرة وقادة سياسيين وعسكريين وأمنيين سابقين، المطالبين بإنهاء الحرب، وفي مقدمتهم إيهود براك وإيهود أولمرت رئيسا الوزراء السابقان، ووزير الدفاع السابق موشيه يعلون، ورئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي السابق اللواء غيورا آيلاند، والجنرال غولان وايزنكوت ورئيس الشاباك السابق، وجميعهم طالب بإجراء انتخابات وإسقاط الحكومة، بعد انكشاف الأهداف الشخصية لنتنياهو، التي تكمن وراء إصراره على الاستمرار في هذه الحرب، والرامية إلى تهربه من المساءلة القانونية عن قضايا الفساد، ومسؤوليته عن الفشل في السابع من أكتوبر 2023، ولضمان بقائه في الحياة السياسية.
لكن في موازاة هذا الضغط الداخلي الرسمي والشعبي، واتساع حدة الخلافات والانقسامات، وعد يائير لابيد زعيم المعارضة، بمنح نتنياهو شبكة أمان بعدم إسقاط حكومته، إذا أقدم على عقد صفقة التبادل، ما شجع نتنياهو البدء بالنزول عن الشجرة، خاصة بعدما كشفت استطلاعات الرأي لأكثر من جهة صحافية وإعلامية، عقب انتهاء الحرب مع إيران، حصول حزب نتنياهو على أكثر من 21 مقعداً في أي انتخابات مبكرة.
أما العامل الشخصي لهذا الموقف الجديد فيتعلق بتغيير نتنياهو تكتيكاته، وليست استراتيجيته القائمة على اجتثاث الوجود الفلسطيني، ومسح غزة بالكامل، واحتلالها وخضوعها للحكم العسكري، عندما طلب ذلك من رئيس الأركان زامير في الجلسة الصاخبة مؤخراً للمجلس الأمني المصغر، الأمر الذي رفضه هذا الأخير. هذه الاستراتيجية يمكن إثباتها من خلال ما يحدث من ممارسات في الضفة الغربية، من توسيع المستوطنات وإنشاء بؤر استيطانية جديدة، وأعمال الهدم والنسف، وتغيير هندسة مخيمات اللاجئين في طولكرم وجنين ونابلس، واعتداءات المستوطنين الإجرامية المتكررة هناك على المدنيين وقتلهم واعتقالهم، ومطالبة الكنيست الإسراع بإعلان بسط السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية، وكذلك ما يقوم به ويطالب به من تصريحات عنصرية وعدوانية بن غفير وزير الأمن القومي والوزير سموتريتش القائل «على الفلسطينيين إما أن يرحلوا، أو يخضعوا لنا أو يموتوا». وهناك عامل شخصي آخر يتمثل بضيق هامش المناورة والخداع والتضليل عند نتنياهو، بعد ظهور معطيات وظروف جديدة في الداخل والخارج. ومن العوامل الخارجية الأكثر تأثيراً، تقدم المشروع الأمريكي للرئيس ترامب الجيوسياسي على المشروع الإسرائيلي التدميري التوسعي، ورؤية ترامب العقارية الاستثمارية للمنطقة، التي توسع وتضمن مصالح الولايات المتحدة كمنطقة استقرار وازدهار اقتصادي، يواجه من خلالها الشرق في حربه التجارية، خاصه مع الصين التي باتت المنافس الأول للاقتصاد الأمريكي، إضافةً إلى رغبته في الظهور كرجل سلام واستقرار في العالم، يعمل على إنهاء الحروب، كما وعد ناخبيه. وهذا ما يفسر دور الرئيس ترامب في الضغط على نتنياهو ومطالبته بوقف إطلاق النار، خاصةً بعد ان ألقى طوق نجاةٍ لنتنياهو عندما طالب بإلغاء محاكمته، أضف إلى ذلك التغييرات الكبيرة التي حصلت بالشرق الاوسط مؤخراً، والتي وصفها ترامب بأنها «تغييرٌ جذري»، كل ذلك شجّع نتنياهو على قبول ضغط ترامب، وترحيبه بدعوته لزياره البيت الأبيض مجدداً.
وعلى الضفة الأخرى، هناك عامل خارجي داخلي يتعلق فيما حققه نتنياهو- على زعمه – من انتصار على إيران في إنهاء المشروع النووي، وتدمير القدرات الصاروخية الإيرانية وضرب منشآتها الحيوية، شكّل حافزاً له لما يُمثّل ذلك من تجفيفٍ لمصادر الدعم المالي والعسكري والسياسي للمقاومة، وللأذرع الإيرانية الأخرى، ولعل في تصريحه القائل «سنطلق جميع مختطفينا ونستأصل حماس من جذورها، وننتهي من عهد حماسستان»، تعبير عن هذه النشوة وهذا الانتصار. ويبقى العامل الموضوعي الخارجي الدولي عاملاً ضاغطاً ومؤثراً على الصعيد الرسمي والشعبي، لما له من تبعاتٍ سلبيةٍ تركت أثرها البالغ على العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية والسياسية مع دولة الكيان، تمثلت بقطع العلاقات الدبلوماسية والسياسية، وبالمقابل الاعتراف بدولة فلسطين، وفك الشراكات الاقتصادية، والمقاطعة الكبيرة والواسعة للمنتجات والبضائع والأنشطة الإسرائيلية، وتعليق التعاون العلمي والأكاديمي، من قبل الجامعات والأكاديميات العالمية مع جامعات الكيان الصهيوني، وكذلك تأثير القرارات الصادرة عن المنظمات والهيئات الحقوقية والأممية المناهضة للموقف الإسرائيلي، والمنددة باستمرار الحرب الإجرامية، ومجازر الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، وتفاقم سلاح الإبادة والتجويع والحصار، ومقتلة ومصيدة المساعدات. هذا العامل الذي زاد من عزلة إسرائيل عالمياً، ووضع حداً للسرديّة الإسرائيلية الكاذبة المتسترة «بالعداء للساميّة والمحرقة المزعومة»، دفع نتنياهو وقادة الكيان لإعادة حساباتهم في استمرار حربٍ تهدد وجودهم، و»حرب باتت بلا إنجازات ولا أهداف»، كما وصفها موشيه يعلون وزير الدفاع الإسرائيلي السابق.
إن كل ما سبق من عوامل على اختلاف تأثيرها، هل سيدفع فعلاً نتنياهو للنزول عن الشجرة، وطي صفحة الحرب إلى غير رجعة؟ أم أن هناك ثمة شيئا آخر يدور في ذهنه، وهو عقد صفقة جزئية وليست شاملة، صفقة يكتنفها الغموض والضبابية – كما هي العادة في كل اتفاقات إسرائيل مع الدول العربية منذ 1948 وحتى يومنا هذا، مروراً باتفاقيات وادي عربة وكامب ديفيد وسيناء، واتفاقات أوسلو سيئة الصيت مع السلطة الفلسطينية، حتى اتفاق الهدنة الأخير مع المقاومة، وتفسيرها كما يشاء، وبالتالي العودة إلى استئناف الحرب؟ وهل إرسال الوفد الإسرائيلي إلى مفاوضات الدوحة يحمل تباشير إيجابية؟ أم أنه كغيره من الوفود سيعود بخفي حنين؟ وهل سيمارس ترامب ضغطه الحقيقي، وينجح في إيقاف الحرب؟ أم سيستخدم خداعه الدبلوماسي كما حدث سابقاً؟ في نهاية المطاف، الغزاويون ونحن والعالم كله، نقف على ساقٍ واحدة بانتظار المولود الجديد.