
أزمة ثقة مستمرة في النظام الدولي
لطفي العبيدي
حرير- التغيرات في البنية العالمية للنظام العالمي تُعتبر أساسية، وكل الدول في النظام الدولي الحالي تسعى لامتلاك القوة من أجل منافسة الدول الأخرى، بل يتمثل هدفها الأساسي ليس فقط في تعظيم قوتها، وإنما منع الدول الأخرى المنافسة من امتلاك القوة، أو على الأقل استنزافها والتقليل من قدراتها، في بعض الأحيان تتكشّف العمليات بسرعة كبيرة بحيث يتخلّف الفكر العام عنها.
من الطبيعي أن يُفسح النظام العالمي المتحوّل، الطريق لمزيج متنوّع من النزعة القومية الحمائية، ولمجالات النفوذ والمشاريع الإقليمية للقوى الكبرى. ومن الأهمية بمكان أن نركّز على فهم الأحداث العظيمة التي تهزّ الإنسانية. انهيار قيادة الغرب الجماعي يصاحبه ويتفاقم معه الانحدار الأخلاقي السريع للثقافة الغربية، والقيم التي يروّج لها الغرب بالقوة والعناد والمتمثلة بالمثليين، والهجرة غير المنضبطة، وتشريع جميع أنواع الانحرافات، وإلغاء الثقافة، والنقاء الوحشي، والقمع ضد جميع المنشقين.
إنّ فقدان المبادئ الإنسانية والاستعداد للانتقال إلى هيمنة الذكاء الاصطناعي، وما بعد الإنسانية، أدى إلى تقليل هيبة الغرب في نظر الإنسانية العالمية. وبالتالي لم يعد الغرب هو المعيار العالمي، أو السلطة المطلقة، أو النموذج الذي يحتذى به كما ذهب إلى ذلك المفكّر الروسي ألكسندر دوغين. فعلا، إذا تخلّى الغرب عن هيمنته العنيفة، وسياسة الاستعمار الجديد، واعترف بسيادة وذاتية كل حضارة إنسانية، وتخلّى عن الفرض العنيف لقواعده ومعاييره وقيمه، التي من الواضح أنها مرفوضة اليوم من قبل الغالبية البشرية. فإنه هو نفسه يمكن أن يصبح قطبا محترما وذا سيادة، ومعترفا به من قبل الجميع، وسيكون موجودا في سياق حوار ودّي ومتساو بين الحضارات، وهذا هو الهدف من بناء عالم متعدد الأقطاب، من حيث إقامة نموذج متناغم للوجود الودي والمتوازن لجميع حضارات الأرض، دون بناء تسلسلات هرمية، ودون الاعتراف بهيمنة أي منها.
الإعلان عن اندثار عصر العولمة تجلّى فعلا، ونحن قريبون بشكل خطير من التوترات بين روسيا والصين من جهة، والغرب من جهة أخرى. لتصبح مواجهات مباشرة، بدلاً من الحروب بالوكالة والصراعات الاقتصادية. مع ذلك، الإدارة الأمريكية لم تتعلّم بعد من التجارب التاريخية مع إيران أو مع غيرها، حيث الالتزام بالدبلوماسية حصرا هو الحل. وإذا كانت واشنطن جدية في الوصول إلى اتفاق، وعدم تشجيع إسرائيل، أو مشاركتها في حرب واسعة ستكون أكثر كارثية من الحرب الأخيرة التي لم تتجاوز 12 يوما، عليها التمسك بالحوار والتفاهم، وتجنب لغة التهديد والحرب في الشرق الأوسط. السيناريو الذي كان يرغب فيه الإسرائيليون بوضوح، يتضمن حربا واسعة النطاق ضد إيران مع هزيمتها العسكرية الكاملة، واستسلامها، وإقامة «نظام عميل» موالٍ لأمريكا في طهران، أو تفكك الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى عدة دول شبه مستقلة في خلاف دائم مع بعضها بعضا، لا تشكل أي تهديد لتل أبيب أو واشنطن.
يبدو أنّه اتّضح لهم بعد الرد الإيراني أنّ هذا السيناريو هو الأقل احتمالا من حيث التحقق، لأنه يتطلب إنشاء تحالف عسكري واسع النطاق ضد إيران بقيادة الولايات المتحدة، ومشاركة موارد بشرية ولوجستية هائلة، مثلما حدث أثناء غزو العراق. في الأثناء، يقف العالم عاجزا أمام استمرار الحرب الكارثية على غزة. الحكومات العربية تخاطر بالظهور بمظهر المتواطئ في تدمير غزة، لكنّها تأمل أيضا في التأثير على رئيس غالبا ما يبدو متأثرا بآخر شخص يتحدث إليه، كما عبّرت «فورين أفيرز». كان بايدن وفريقه موثوقين ومألوفين، بينما يعلم قادة المنطقة أن ترامب قد يغيّر رأيه دون سابق إنذار، يخشون أن تُؤدي رسوم ترامب الجمركية إلى ركود عالمي من شأنه أن يُضر بمبيعات النفط، وحركة الشحن التي تمرّ عبر البحر الأحمر وقناة السويس. ويخشون أيضا أن يؤدي إنهاء ترامب للمساعدات الخارجية إلى زعزعة استقرار الدول المتلقية لها، مثل الأردن ومصر. وقد أثارت تصريحاته الغريبة بشأن غزة قلقهم. والأهم من ذلك كلّه، لا يعرفون ما إذا كان يُمهّد الطريق لدبلوماسية حقيقية مع إيران، أم أنه يُنهي مسار الحرب فحسب. يختلف الرئيسان في الأسلوب والقدرة على التنبؤ. واصل بايدن تطبيق جميع سياسات ترامب في الشرق الأوسط تقريبا، مركّزًا على تمديد اتفاقيات أبراهام، مع عدم العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، الذي انسحب منه ترامب، رافضا السعي لتحقيق السلام الإسرائيلي الفلسطيني، ومتجاهلا إعطاء الأولوية لحقوق الإنسان. بينما يعتبر ترامب اتفاقيات أبراهام أحد أعظم الإنجازات الدبلوماسية في ولايته الأولى. ولا شك أنه كان يحبّ الإعلان عن انضمام السعودية إلى هذه العملية خلال زيارته الأخيرة للمملكة، ليزعم أنه حقق ما عجز عنه بايدن، لولا الحرب في غزة والخسائر اليومية المروعة للهجوم الإسرائيلي على القطاع، التي تجعل التطبيع في الوقت الراهن على الأقل أمرا صعبا، رغم أن القادة العرب لا يكترثون للفلسطينيين، إلا أن شعوبهم تهتمّ. فرغم كل ما حدث منذ السابع من أكتوبر وحرب غزة، لا تزال بعض الحكومات العربية تأمل في علاقات أوثق مع إسرائيل، معتقدة أن مثل هذه العلاقات ستخدم مصالحها الاستراتيجية، لكنهم لم يتمكّنوا من المضي قدما بسبب المعارضة الشعبية التي يخشونها، إن عدم إحراز تقدم في هذه الأجندة هو «الكلب الذي لم ينبح» حقيقة كما جاء في تعبير «فورين أفيرز». قد لا يكون القادة العرب على استعداد لتحدي إسرائيل بشكل مباشر، لكنهم أيضا غير مستعدّين لمواجهة رد الفعل الشعبي الذي قد ينتج عن تعاون أوثق. إن التحركات التي اتخذتها الحكومات العربية، مثل إلغاء المغرب لزيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، التي كانت مقررة في عام 2024، لا ترقى إلى مستوى الانقسام الدرامي. لكنّها أعاقت اندماج إسرائيل في المنطقة، وهو هدف رئيسي لاتفاقيات إبراهام. لا يقتصر الأمر على خروج المواطنين العرب لدعم شعب غزة، بل تعمل جهودهم أيضا على تغيير الديناميكيات الإقليمية بطرق تتحدى المصالح الأمريكية والإسرائيلية. وطالما أن الشعوب العربية ترى أن السياسات الأمريكية والغربية تجاه إسرائيل تقوم على ازدواجية المعايير والإفلات من العقاب، فمن المرجح أن تستمر هذه المواجهة رغم خفوت صوت الحكومات.
ترامب ألقى ظلالا من الشك على التزام الولايات المتحدة تجاه حلفائها وشركائها، واقترح طرد أكثر من مليوني فلسطيني يعيشون في غزة مؤقتًا وإعادة توطينهم في أماكن أخرى. يأتي هذا بعد المذبحة المستمرة في غزة التي كان لها تأثير مدمّر على تصورات العرب لإسرائيل والولايات المتحدة، التي تواصل إرسال إشارات مكلفة تثبت الالتزام والقدرة. وتبقى الحكومات العربية، المهووسة بإمكانية اندلاع جولة جديدة من الانتفاضات، تراقب عن كثب المزاج السياسي لشعوبها، خاصة أنّها لم تفعل شيئا يذكر تجاه غزة وفلسطين، وكان بإمكانها أن تفعل الكثير لو امتلكت الإرادة والموقف.