متى ولماذا وكيف سقط محور المقاومة؟

جواد بولس

حرير- عبثا حاولت ألا أكتب عن حرب إسرائيل وإيران، خاصة أن تداعياتها ما زالت متفاعلة ومصيرها يراوح بين احتمالين قطبيين: فإما أن يطرأ عليها تصعيد عسكري خطير قد يؤدي، إن حصل، إلى اشعال صراعات دولية تتعدى المواجهة المباشرة بين إسرائيل وإيران، وإما أن تستغل الدول التي لها مصالح استراتيجية كبرى في المنطقة، توازنات المواجهات العسكرية كما تشكّلت في هذه المرحلة، وتفرض حلّا سياسيا على الطرفين.

منذ لحظة بدء إسرائيل بتنفيذ ضربتها العسكرية على إيران، كثرت التعقيبات التي افترضت أن بنيامين نتنياهو كان صاحب الفكرة والقرار ببدء الهجوم وأنه جرّ المؤسستين الأمنية والعسكرية، أي الموساد والجيش، إلى خوض المغامرة كي ينجو هو وحكومته من جملة أزماته التي وصلت إلى حدّ أشعره أن مكانته السياسية تضعضعت، حتى بات سقوطهم وشيكا. لن يستطيع أحد أن ينفي صحة تلك الفرضية؛ فنتنياهو كان يحلم دائما بإشعال الجبهة الإيرانية، لكنه لم ينجح بذلك طيلة أكثر من عشرين عاما كان فيها رئيسا للحكومة؛ فمن يعرف طبيعة العلاقات التاريخية بين الحكومة الإسرائيلية والمؤسستين الأمنية والعسكرية، لا بد أن يعرف أنه دون موافقة هاتين المؤسستين وقناعتيهما بضرورة خوض هذه المواجهة واستعدادهما لها، لكان من الصعب، أو حتى مستحيلا، على نتنياهو أن يجرّهما إليها.

لا يمكننا معالجة قضية المواجهة الحالية مع النظام الإيراني، دون وضعها في سياق مواجهة إسرائيل والدول الحليفة لها مع ما يسمى «محور المقاومة» الذي هيمن عليه النظام الإيراني ووقف في صدارته. لقد ضم محور المقاومة كلا من نظام بشار الأسد في سوريا، وحزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن، والفصائل الشيعية المتنفذة في العراق، وحركة المقاومة الاسلامية – حماس في غزة، التي اعتُبرت واعتبرت نفسها، رغم سنيّتها، جزءا محوريا منه. لقد تبنى النظام الإيراني منذ اللحظة الأولى لنجاح الثورة الخمينية موقف المواجهة مع «الشيطان الأكبر» أي أمريكا، ومع «الشيطان الأصغر» أي إسرائيل؛ لكنه تورط وتدخل، من حين إلى آخر في حروب ومواجهات على عدة جبهات ومواقع، أفضت في نهاياتها إلى إحداث عدة تغييرات جوهرية على الخريطة السياسية في منطقة الشرق الأوسط. لقد كانت حرب إيران، التي دامت ثمانية أعوام، مع نظام صدام حسين السني، وما تلاها من أحداث على الساحة العراقية، وصعود القطب الشيعي للحكم، أهم تلك المواجهات. وجاء مثلها، أثر اجتياح إسرائيل للبنان في بداية ثمانينيات القرن الماضي، تبنيهم لحزب الله في لبنان واعتماده ذراعا شيعيا واعدا وقوة منظمة عقائديا وعسكريا وموالية بالكامل للنظام الإيراني، وقيامهم بتعزيز التحالف مع النظام السوري، حتى إن النظام الإيراني كان يفاخر بأنهم يحكمون خمس عواصم في المنطقة: طهران وبغداد ودمشق وبيروت وصنعاء. وقد عارضت إسرائيل المشروع النووي الإيراني منذ بدء العمل فيه، وحاولت أن تقوّضه بالتهديد المباشر وبجميع الوسائل والضغوطات، إلا أن الإيرانيين نجحوا بعد أن توفرت ظروف دولية مواتية بالتوصل عام 2015 إلى صيغة اتفاق وقعوه مع الدول الراعية للمفاوضات في مدينة لوزان. لم يصمد الاتفاق طويلا، ليس فقط بسبب معارضة إسرائيل له، بل لقيام دونالد ترامب مباشرة بعد انتخابه لولايته الأولى، بإبطاله، وترك النظام الايراني يواجه أزمته النووية «بحكمته وحنكته ومكره»، وقيل إن الحرب خدعة.

لن أسترسل بسرد تفاصيل هذا التاريخ، رغم علاقتها بما يجري في أيامنا؛ لكنني عدت للتذكير ببعضها لأهميتها ولارتباطها بتداعيات المشهد الحالي، وكي نفهم دوافع وخلفيات القرار الإسرائيلي في مباغتة إيران كما حصل يوم الجمعة الماضية. فبعد السابع من أكتوبر 2023 تراكمت مجموعة من الأحداث المفصلية، واختمرت ظروف المواجهة مثل: سقوط نظام الأسد في سوريا واستبداله بنظام سنّي حليف لأمريكا ولإسرائيل، وتدمير حزب الله في لبنان وتحييده كقوة ردع وازنة في المعادلات الإقليمية، وتدمير غزة وقوة حماس العسكرية في حرب إبادة وحشية ما زالت جارية في ظل الدراما الإيرانية الحالية، وتوصل أمريكا لاتفاق مع الحوثيين يضمن حماية مصالحها، وتحييد شيعة العراق والتزامهم بعدم التدخل بما يجري خارج بلدهم، وإعادة انتخاب ترامب رئيسا لأمريكا. لقد شكلت هذه النهايات/ الانهيارات لحظة إسرائيلية فارقة التقت فيها رغبات نتنياهو الحربية ودوافعه الشخصية والسياسية، مع نهم ودوافع ومفاهيم المؤسسة الأمنية والعسكرية وتقديراتها التكتيكية، واستعداداتها الميدانية، فصار القرار بمهاجمة إيران ممكنا «وضروريا».

فمتى وكيف ولماذا سقط محور المقاومة؟

ليس من الصعب أن نعد الإنجازات التي تحققت لنتنياهو وحكومته، جراء الهجوم المباغت على إيران، وأولها تحوّله، منذ اللحظة الأولى لإعلانه، من شخصية خلافية يمقتها الكثيرون ويعتبرونها مخادعة وانتهازية وفاسدة، إلى قائد مغامر وقوي يعمل في سبيل تحييد الخطر الأكبر عن إسرائيل، ويحوز، ولو مؤقتا، دعم معظم من كانوا يطالبون باقصائه عن الحكم واستنفاد إجراءات محاكماته الجنائية. لقد أدّت هجمة حماس في السابع من اكتوبر 2023 إلى خلخلة عدد من المعتقدات الشائعة، وثقة اليهود، خاصة فيما يتعلق بقوة الاستخبارات الإسرائيلية وإمكانياتها الخارقة وقوة جيشهم الذي لا يقهر؛ ومسّت الهزيمة بسمعة إسرائيل وبمكانتها أمام العالم كله. ورغم كل الجهود التي بذلت في سبيل ترميم ما هدم، بقيت آثار الهزيمة راسخة، إلى أن جاء الهجوم المباغت عل إيران بنتائجه الصادمة للإيرانيين والمبهرة للإسرائيليين ولحلفائهم، فأعاد، ولو مرحليا، للجيش الإسرائيلي هيبته، ولقدرة أجهزة الاستخبارات الإعجاب والتقدير. وقيل إن الحرب خدعة.

يقول البعض إذا انتصرت إسرائيل على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، سيصبح نتنياهو امبراطور الشرق وإسرائيل حاضرته، وأقول إن هذا الكلام صحيح للأسف، ولكن كيف يمكن مواجهة هذا الكابوس إذا كان أصحاب القضية نائمين وعاجزين عن فهم واقع وطبائع أعدائهم. فلماذا قررت إسرائيل ضرب إيران في ذلك الفجر، هو السؤال الذي قد يجدون في الإجابة عليه، وعلى أسئلة ملحة أخرى، حلا للغز الهزيمة اذا أرادوا. فالاكتفاء بتعليل ما حصل بغرائز نتنياهو النهمة ودوافعه غير كاف وخطأ.

وعلى الذين يريدون منع نتنياهو، ويجب منعه طبعا، من أن يصير امبراطور الشرق وإسرائيل حاضرته، أن يسألوا الأسئلة الصحيحة والملحة وأن يجيبوا عليها أولا. فمتى ولماذا وكيف سقط محور المقاومة هو السؤال الذي لا يجوز إعفاء زعماء الجمهورية الإسلامية قائدة محور المقاومة، ومَن شبك أياديه بأحزمتهم، من واجب الإجابة عليه والتعامل معهم من خارج دائرة مسؤوليتهم عما حصل، يعتبر خطيئة. وعدم التعاطي مع السؤال ماذا استفاد، بنظرة إلى الوراء ووفقا لموازين الربح والخسارة والنتائج التي تحققت على جميع الجبهات، «محور المقاومة» من هجمة حماس في السابع من أكتوبر، يعتبر جرما بحق جميع من سقطوا في تلك المعارك خصوصا على أرض غزة؛ والتهرب من محاولة فهم ومعالجة ظاهرة اختراق حركات المقاومة، وانتشار الفاسدين والجواسيس داخل صفوفها وداخل أجهزتها العسكرية يعتبر خيانة. وعدم مواجهة التساؤل حول هدف الجمهورية الإسلامية الإيرانية ودورها إزاء قضية فلسطين كقضية شعب قومية يعتبر تملقا.

أكتب المقاله وصافرات الانذار تدوي في سماء القدس وفي مناطق أخرى داخل إسرائيل. يملؤني القلق والغضب على العنجهية الإسرائيلية ونزعتها المتأصلة للعربدة والاعتداء على الغير، من دون أن تجد من يوقفها عند حدود الدم. وأكتب والجميع ينتظرون قرار الرئيس ترامب حول وجهة الحرب المقبلة؛ فأمريكا متورطة في الحرب منذ بدايتها ورئيسها يتصرف بتأنّ متغطرس وبنزق يليق بامبراطور مسكون بالنرجسية وبجنون العظمة، ولا يقبل أية مزاحمة، خاصة من شخص يشعر نفسه امبراطورا ويحكم دولة لا تقهر، اسمه نتنياهو، فيجعله ينتظر وينتظر، وملايين من البشر ينتظرون بقلق، خائفين تحت أجنحة ليل طويل وبارد، ويعرفون أن الحرب خدعة.

مقالات ذات صلة