Yes” نعم بصوت مرتجف .. حين تفضح السينما العمى الجماعي وتستبق الانهيار

المخرج السينمائي يحيى بركات

في مهرجان كان السينمائي لعام 2025، وقف المخرج الإسرائيلي ناداف لابيد أمام جمهور عالمي ليقدم فيلمه الجديد “Yes”، وهو عمل ساخر مرير يتتبع انحدار إسرائيل إلى هاوية عمى جماعي بعد هجوم السابع من أكتوبر، ويتلمس بذات الوقت التصدعات العميقة داخل البنية الأخلاقية والثقافية لمجتمع يعيش على خطاب الاستثناء والتفوق والخوف.

الفيلم الذي هزّ الجدار من الداخل

“Yes” ليس فقط فيلمًا عن إسرائيل؛
إنه فيلم داخلها، منها، ضدها، ومن أجل خلاص إنساني أكبر. البطل موسيقي يائس يُكلف بتأليف نشيد وطني جديد، لكنه سرعان ما يغرق في عالم من الرموز المشوشة، الأكاذيب الرسمية، والنزعات الفاشية الصاعدة. الفيلم لا يقدّم إدانة مباشرة بقدر ما يخلق مرآة سوداء، تكشف ملامح نظام غارق في الهوس بالنجاة عبر الإبادة، وحرب غير متكافئة تتحول إلى طقوس دموية تُبث مباشرة على الهواء.
لابيد، الذي أثار ضجة سابقة بفيلمه “Synonyms”، لا يكتفي بالإخراج هذه المرة، بل يصرّح بصوت مسموع: “ما نراه سلوك أعمى وصل إلى حد المرض الجماعي… لم نعد نرى البشر خلف الأسوار”.
اليهود الذين يخشون على مستقبل اليهود
ردود الفعل على الفيلم لم تقتصر على صالة العرض. فالكثير من الأصوات اليهودية العالمية — من مثقفين، فنانين، طلاب جامعات، حتى بعض الحاخامات التقدميين — بدأت تُعبّر عن خشيتها من أن تتحول سياسات إسرائيل إلى عبء تاريخي أخلاقي على اليهود كجماعة دينية وثقافية حول العالم.
إن هؤلاء لا ينطلقون من تعاطف مع الفلسطيني فقط، بل من خوف على مصير اليهودي نفسه. فالصوت الأخلاقي الذي حصد به اليهود جزءًا من تعاطف العالم بعد الهولوكوست، صار مهددًا بفقدان شرعيته بفعل مجازر غزة، التي نقلت “الضحية” إلى موقع “الجلاّد”، وسحقت أي إمكانية لتبرير القتل المنهجي لطفل يبحث عن الماء تحت الأنقاض.
الغرب يغيّر مواقفه… لا حبًا في غزة،
بل صدمة من إسرائيل .
المواقف السياسية الغربية بدأت تتزحزح، ليس بفعل ضغوط أخلاقية فحسب، بل نتيجة ضغط شعبي واسع النطاق، من الجامعات إلى الشوارع، ومن الإعلام إلى المؤسسات الثقافية. بات واضحًا أن صورة إسرائيل لم تعد تلك الواحة الديمقراطية في الصحراء، بل أصبحت بالنسبة لكثيرين رمزًا للاحتلال والعنصرية والدين القومي المهووس.
هنا تكمن أهمية أفلام مثل “Yes”
لا لأنها تقنع العدو بعدم جدوى القتل، بل لأنها تُحرج المؤيد أمام مرآته، وتترك له خيارًا أخلاقيًا صعبًا: إما أن يرى ما يراه لابيد، أو يستمر في العمى.
حين تصبح السينما نبوءة تحذيرية
السينما لا توقف الحرب، لكنها قد تفضحها، تسخر منها، تُسقِط أقنعتها. وفيلم لابيد لا يطلب تعاطفًا مع الفلسطيني، ولا يتظاهر بالحياد. إنه يُشخّص مرضًا أصاب الجسد الإسرائيلي من الداخل، ويطرح تساؤلًا مرعبًا: ماذا سيبقى من هذا الكيان عندما يفقد تعاطف العالم؟
ربما لهذا السبب تحديدًا، نجد أن المعارضين اليهود للحرب — من حركات مثل Jewish Voice for Peace، إلى مثقفين كـ بيتر بينارت ونعوم تشومسكي — لا يسعون إلى إدانة وجود إسرائيل، بل إلى إنقاذ ما تبقى من إنسانيتها، إن بقي منها شيء.
فيلم “Yes” ليس مجرد صرخة فنية، بل وثيقة في غاية الأهمية، تصدر من قلب مجتمع بدأ جزء كبير منه يشعر أنه يسير نحو العزلة والهاوية، وأن الإبادة في غزة لا تمزق النسيج الفلسطيني فقط، بل النسيج الأخلاقي اليهودي العالمي.
لقد بدأ العالم يغير نظرته. والمثقف اليهودي الحقيقي، كما يظهر في هذا الفيلم، لا يدافع عن إسرائيل بل ينتقدها كي لا تسيء لليهودي ويضعهم العالم
في زوايا التاريخ كذكرى ألم لا يُطاق.

يحيى بركات
مخرج وكاتب سينمائي
منصة سينمابريدج

مقالات ذات صلة