
صعود الصين: قراءة أولية في نتائج الحرب الهندية الباكستانية
يحيى كامل
حرير- حين نقرأ كتب التاريخ أو أعمالاً ومقالاتٍ تتطرق إليه، فكثيراً ما تصادفنا تعبيراتٍ أو توصيفاتٍ للإرهاصات أو التغيرات البسيطة في الأغلب، إلى الحد الذي ربما فاتت فيه على معاصريها، ولم تبن وتتضح إلا لثاقبي البصر ومرهفي الحس، تجاه كل ما يدور في محيطهم، إلا أن التقييم بأثرٍ رجعي يبين أنها لم تكن سوى خطواتٍ أدى تراكمها إلى تحولاتٍ عميقة وجارفة على أرض الواقع، وفي مسار التاريخ، وأنها كانت في حقيقة الأمر تعبر عن ذلك التغيير البطيء ربما، لكن الأكيد. بطبيعة الحال فإن هذه التغيرات تتفاوت من حيث الحجم والأهمية والدلالة، كما تلعب الصدفة في التوقيت دوراً مدهشاً في بعض الأحيان.
في الأيام السابقة أزعم بشدة، أننا شاهدنا شيئاً من ذلك في الحرب القصيرة التي دارت بين الجارتين النوويتين الهند وباكستان، التي أزعم أن تأثيرها الأهم لا يكمن في إعادة رسم التوازن بين الهند وباكستان، بقدر ما يكمن في صعود الصين وإعادة رسم التوازنات العالمية. لا يخفى على أي متابع، أن كل الأرقام والإحصاءات كانت ترجح كفة الهند، فهي الأكبر اقتصاداً وجيشاً والأوفر تسليحاً، كما أن ميزانية الإنفاق العسكري لديها تمثل قرابة عشر أضعاف جارتها وعدوتها، ناهيك مما عُد حتى وقوع الصدام تفوقاً في نوعية التسليح. وهناك التقارب والتعاون اللصيق مع الكيان الصهيوني في التصنيع العسكري، الذي قطعت الهند فيه شوطاً معتبراً.
بالفعل قامت الهند بقصف العديد من المواقع، ومراكز القيادة في الداخل الباكستاني، وقامت هذه الأخيرة بالرد عليها، إلا أن التركيز انصب بشكلٍ أساسي على السجال الجوي، وما قامت به باكستان من إسقاط ثلاث طائرات رافال فرنسية، التي تعد درة التاج ربما في السلاح الجوي الهندي نظراً لتطورها، بالإضافة إلى طائرة سوخوي 30 وأخرى ميج 29 وكلها طائرات معتبرة ناهيك مما يربو على السبعين مُسيرة.
لا شك أن جدية التدريب، ومن ثم القدرات العالية للطيارين الباكستانيين، لعبت دوراً يُعتد به في هذا، إلا أن الدور الحاسم ـ كما يجمع المراقبون في قراءةٍ متعجلة وحتى إشعارٍ آخرـ كان للسلاح الصيني، متمثلاً في طائراتٍ وصواريخ حديثة صينية الصنع. أزعم أن هناك دلالاتٍ عديدة لهذا الحدث، وأنها ستزداد مع الأيام، وعلى الرغم من تحفظي الشديد على التنبؤ بالمستقبل، فإنني أستشعر وأعتقد أننا سنؤرخ في العقود المقبلة لهذه الحرب كعلامةٍ مهمة على بداية مرحلةٍ جديدة. من ثم، فهناك مجموعة من الاستنتاجات الأولية (وربما المتعجلة بعض الشيء) سأوردها هنا:
أولاً: كثر الحديث في السنوات الماضية عن الصعود اللافت والأكيد للصين، كقوة اقتصادية أصبحت فعلياً «مصنع العالم»، وتوشك أن تتخطى الولايات المتحدة الأمريكية (إن لم يكن قد حدث بالفعل) لتصبح الاقتصاد الأكبر في العالم، وعن تغلغلها في أماكن كافريقيا، ولم تزد حرب ترامب وإجراءاته الحمائية هذه التكهنات، أو المخاوف، وفقاً لموقع الشخص من الخريطة والصراع، إلا تأكيداً، فإنه وإن كان قد فرض الرسوم على دولٍ عديدةٍ، إلا أنها في المقام الأول موجهةٌ للصين، لتحجيمها وإيقاف تقدمها. صدفةٌ عجيبة أن تأتي هذه الحرب في هذا التوقيت أو المنعطف التاريخي بالذات لتؤكد على الحضور الصيني وتشكل نجاحاً فائقاً على أرض الواقع لصناعة السلاح الصينية. لقد قلب هذا السلاح الموازين دون مبالغة، لقد كانت هذه الحرب (في ما أعلم وما أذيع) أول اختبارٍ حقيقيٍ له وقد نجح بصورةٍ مبهرة. لم يتوقع أحدٌ هذا، وإنني على قناعة أن الغرب متمثلاً في الولايات المتحدة وبريطانيا تدخل بسرعة، لإيقاف هذه الحرب لمنع المزيد من الإهانة للهند، والمزيد من الأدلة على كفاءة هذا السلاح إن لم يكن تفوقه.
ثانيا: تثبت هذه النتيجة الحربية وما وصلت إليه الحرب الاقتصادية و»الهدنة»، إذا جاز التعبير التي توصلت إليها الولايات المتحدة والصين في التعريفات الجمركية المفروضة من الطرفين على بعضهما بعضا، أن الصين جاءت لتبقى وأن المحاولات والإجراءات السخيفة التي يقوم بها ترامب غير مجدية؛ أيضاً، بأداءٍ كالذي شهدناه للسلاح الصيني، وما هو مرصود من التصنيع والتدشين المحموم للقطع البحرية، ومن ثم النمو المتعاظم للأسطول البحري الصيني، فإنني أعتقد أن استعادة الصين لتايوان مجرد مسألة وقت، وأن النتيجة محسومة سلفاً.
ثالثاً: في ضوء التراجع النسبي للاقتصاديات الغربية، أمام دول الشرق والصين تحديداً، يتآكل دورها السياسي ومقدرتها على التأثير. يقيناً لم تعد لها الكلمة الأولى والأخيرة كما أن حقبة «القطب الأوحد» حيث تسيدت الولايات المتحدة الأمريكية العالم عقب سقوط الاتحاد السوفييتي، دون منازعٍ حقيقي تقريباً، قد انتهت بصعود العملاق الصيني الناجح اقتصادياً تماماً، على عكس الاتحاد السوفييتي السابق.
رابعاً: بناءً على كل ما سبق فإن صعود الصين يفتح مجال المناورة للدول «الواقعة في النص»، التي تتنافر مصالحها مع الغرب، وتحديداً مع الولايات المتحدة الأمريكية في استعادةٍ مشابهة (رغم الاختلافات) لحقبة ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى سقوط الاتحاد السوفييتي، تحديداً في المجال الاقتصادي وفي التسليح.
هناك سمة جوهرية وفارقة تميز الصين في ما يخص صراعنا الوجودي مع الكيان الصهيوني: في حين أن العلاقة تاريخياً بين روسيا القيصرية، ثم وريثتها السوفييتية مع المسألة اليهودية، ومن ثم نشأة وتطور الحركة الصهيونية علاقة مؤسسة بمعانٍ عديدة وعميقة ومعقدة، وكون المشروع الصهيوني مترابطا عضوياً مع المشروع الإمبريالي الغربي، حاملة الطائرات الأمريكية في استعارةٍ معبرة للغاية، فإن المشروع الصهيوني لا يعني شيئاً من ذلك على الإطلاق للصين، بل هو مناوئ تماماً لمصالحها، كما أن البعد التوراتي أو المسياني الخلاصي الديني، الذي أثر في الماضي في أوروبا، ولم يزل في أمريكا لدى بعض الطوائف البروتستانتية، غائبٌ تماماً في حالة الصين.
لولا الانهزام الطوعي وتماهي المصالح الشخصية للأنظمة العربية مع الغرب، لكان هذا الصعود الصيني هو الفرصة العظيمة والانفراجة المنتظرة لتعضيد الموقف العربي إزاء العدو الصهيوني، ولكان من الطبيعي الاتجاه شرقاً نحوها. أنا أكتب هنا من منطلق المصالح والواقعية السياسية، لا الانحياز لهذا النموذج، أو ذاك فكلاهما في رأيي فاسدٌ مستغل. لكن للأسف جاء هذا التغيير في الخريطة السياسية في زمنٍ سلمت الأنظمة العربية فيه تماماً، امتداداً وتماهياً، مع رؤيةٍ قاصرة دشنها السادات ادعت الواقعية السياسية، في حين أنها لم ترَ، أو تدرك أن التاريخ يتحرك والعالم يتغير، وأن دوام وأبدية السيادة الأمريكية أمرٌ محال. أياً كان، فمن منطلق حركة التاريخ فإن دوام هذه الأنظمة الرديئة، وما فرضته من هزيمةٍ على الشعوب العربية أمرٌ محال أيضاً. تبقى للصعود الصيني مناوئاً لأمريكا، ملامحه الإيجابية.. ولنراهن على الزمن.



