العراق: السياسيون السنة والتهميش!

يحيى الكبيسي

حرير- بعد قرار المحكمة الاتحادية العليا بالإطاحة برئيس مجلس النواب العراقي محمد الحلبوسي من منصبه، وإخراجه من مجلس النواب، وهذا القرار لا يستند إلى حجة دستورية أو قانونية، بل هو قرار سياسي، كانت المحكمة الاتحادية أداة لتمريره. وأنها ليست المرة الأولى التي يُستخدم فيها القضاء عموما، أو المحكمة الاتحادية العليا، أداةً لمنح الغطاء القانوني لقرارات سياسية ليس باستطاعة الفاعلين السياسيين تمريرها سياسيا!

وتتلخص الواقعة التي استخدمت للإطاحة بالحلبوسي في أن أحد نواب حزبه اتهمه بأنه أجبره على توقيع استقالة مسبقة دون تاريخ، وأن الحلبوسي استخدم الاستقالة المسبقة هذه بتاريخ 7 أيار 2022 بشكل رسمي، قبل أن يتم الصلح بينهما. لكن الحلبوسي عاد واستخدمها ثانية بتاريخ 15 كانون الثاني 2023 بعد قيامه بشطب التاريخ القديم ووضع تاريخ جديد، ولكن الاتهام لا يدخل أصلا ضمن اختصاصات المحكمة الاتحادية المقررة في المادة 93 من الدستور، وكان يفترض بها رده شكليا!

وشرحنا أيضا كيف أن قرار المحكمة الاتحادية لم يتضمن مطلقا حكما بارتكاب التزوير، وهي التهمة التي تنطبق على توصيف الواقعة، بل استخدمت توصيفا مقصودا هو أن طلب الاستقالة شابه «التحريف والتغيير والاستخدام غير الصحيح» مما يقضي بعدم صحتها. وقلنا حينها إن الغاية من هذه التوصيفات غير القانونية، والتي لا عقوبة عليها بموجب القانون، هي أن القرار السياسي الذي أنتج هذا القرار من المحكمة الاتحادية، كان يقضي بجر إذن الحلبوسي فقط، وليس إنهاء لدوره السياسي، عقابا له على خيانة من صنعه من الفاعلين السياسيين الشيعة في الإطار التنسيقي، حين ذهب إلى التحالف الثلاثي بعيد انتخابات مجلس النواب عام 2021. فالمحكمة لو اتهمته بالتزوير، وهي تهمة مخلة بالشرف بموجب القانون العراقي، فإن ذلك سيمنعه من ممارسة أي دور سياسي مستقبلا!

وحدث ما توقعناه، فقد أصدرت محكمة جنايات مكافحة الفساد المركزية بتاريخ 13 شباط 2025 قرارا ببراءة الحلبوسي من تهمة «التزوير»، وعدت ما قاله النائب المقال من أنه أجبر على توقيع «طلب استقالة كتبت بخط يده بدون تاريخ»، فضلا عن ورقة بيضاء موقعة ومعنونة إلى الحلبوسي بصفته الشخصية، وأن هذه الاستقالة قد استخدمت مرة أولى من خلال إصدار كتاب رسمي من مجلس النواب بقبول الاستقالة، «قبل أن يتدخل عدد من النواب لحل الأزمة» وإلغاء تلك الاستقالة (هذه بحد ذاتها فضيحة تواطأ معها مجلس النواب العراقي). وأن الحلبوسي بصفته رئيسا لمجلس النواب استخدم الورقة البيضاء الموقعة بعد طباعة مضمون الاستقالة، واستخدمها لإخراجه من مجلس النواب، مجرد ادعاء شخصي. ونص القرار على أن الحلبوسي قد أنكر هذه الادعاءات، وأن «التناقض الحاصل في التحقيقات التي أجرتها المحكمة الاتحادية العليا بخصوص تواريخ تقديم الاستقالة كان بسبب فقدان الأوليات نتيجة التظاهرات التي حصلت عام 2022 على خلفية الاضطرابات السياسية بانسحاب أطراف من العملية السياسية»، وإلى أن قرار المحكمة الاتحادية لم يتضمن «ثبوت تزوير أي وقائع»! لتقرر المحكمة في النهاية «وبذلك تكون الأدلة المتوفرة في هذه القضية غير كافية»، وبالتالي الإفراج عن الحلبوسي وغلق التحقيق بحقه «مؤقتا» استنادا إلى نص المادة 130/ ب من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تنص على أنه «إذا كان الفعل معاقبا عليه، ووجد القاضي… أن الأدلة لا تكفي لمحاكمته فيصدر قرارا بالإفراج عنه وغلق الدعوى مؤقتا»!

وهذا يعني أننا أمام قرارين قضائيين متناقضين تماما، وأمام حيثيات متباينة استندت اليهما المحكمتان، بل وأمام وثائق مختلفة اطلعت عليها المحكمة الاتحادية، وقررت المحكمة الثانية عدم الاطلاع عليها، بل اكتفت بكلام الحلبوسي وإنكاره للواقعة!

فقرار المحكمة الاتحادية صدر بتاريخ في 14 تشرين الثاني 2023، أي بعد التظاهرات المفترضة في عام 2022، استند المحكمة على أن ورقتي الاستقالة «لم يتم التعامل معها بشكل قانوني سليم من خلال التحريف والتغيير الذي جرى عليهما»، وإلى أن ممثل الحلبوسي القانوني «أقر» بأن الحلبوسي نفسه قد قام «بشطب تاريخ الموافقة بتاريخ 7/ 5/ 2022 وترويجها بتاريخ 15/ 1/ 2023»، وان هذا «التغيير في الحقيقة يمثل تحريفا فيما ورد في ورقة الاستقالة»، وإلى أن «التناقضات في دفوع المدعى عليه مانعة من سماع تلك الدفوع»، ولكن الفقرة الأهم في قرار المحكمة الاتحادية أنه يشكك تماما بسردية ضياع الأوليات الخاصة بالقضية، فهو يشير صراحة إلى جميع الوثائق المتعلقة بالقضية، تحديدا فيما يتعلق بكتاب الاستقالة الأول، وهو الكتاب المرقم 302 الصادر في 7/ 5/ 2022 بقبول الاستقالة، وأن مكتب الحلبوسي أصدر كتابا بتاريح 5/3/ 2023 نفى بموجبه صحة الكتاب المرقم 302، في الوقت الذي أصدر النائب الأول لرئيس مجلس النواب وبتوقيعه كتابا يتضمن الموافقة على «إلغاء الاستقالة»، فضلا عن كتب أخرى يثبت حدوث تلك الاستقالة، لينتهي أنه «وبعد كل ذلك عاد مجلس النواب وأوضح ان الأوليات التي تخص الكتاب بالعدد 302 في7/5/ 2022 مفقودة»، وكما هو واضح فإن المحكمة الاتحادية تشكك بشكل صريح في واقعة فقدان الأوليات التي استندت اليها المحكمة الثانية في حكمها! وهو ما يثبت أن قرار المحكمة الثانية كان قرارا «ديليفري» أيضا، لأنها لم تحاول الاطلاع على الوثائق التي اطلعت عليها المحكمة الاتحادية، وأن القرار كان هدفه تبرئة الحلبوسي لإتاحة الفرصة له للترشح في الانتخابات القادمة!

وعلى الرغم من العوار الصريح الذي شاب قرار المحكمة الثاني، فقد قررت محكمة التمييز الاتحادية بتاريخ 20 نيسان 2025 المصادقة عليه بكل سلاسة!

في العراق، لا يمكن التعاطي مع هذا التناقض في الأحكام القضائية، إلا في سياق سياسي؛ فالقرارات القضائية هي قرارات سياسية في النهاية، ودائما ما أصفها شخصيا بالقرارات «الديليفري» التي تأتي وفقا لأدوار الفاعل السياسي الشيعي الأقوى. والأخطر من كل ذلك أن القضاء نفسه تحول، اليوم، إلى فاعل سياسي له حساباته وتحالفاته ومصالحه!

ويؤشر هذا التناقض أيضا على استمرار الصراع بين رئيس مجلس القضاء الأعلى، ورئيس المحكمة الاتحادية العليا، وهو ما يفسر هذا الانتقاص من المحكمة الاتحادية العليا عندما يشير كتاب المحكمة الثانية إلى «التناقض الحاصل في التحقيقات التي أجرتها المحكمة الاتحادية العليا بخصوص تواريخ تقديم الاستقالة»، مع أن من قرار المحكمة الاتحادية كان أكثر مهنية في متابعة حيثيات القضية من الطريقة غير المهنية التي اعتمدتها المحكمة الثانية، ويفترض أن قراراتها باتة وملزمة للسلطات كافة، بما فيها القضاء الطبيعي نفسه!

أخيرا فإن هذا التلاعب بالفاعلين السياسيين السنة، يؤشر إلى طبيعة الدولة الطائفية في العراق، فثمة قرار للفاعل السياسي الشيعي بالإخصاء الرمزي (وهو مصطلح استخدمه عالم النفس الشهير جاك لاكان) للفاعلين السياسيين السنة، وجوهر فكرة الإخصاء هنا هي التأكد من أن الفاعل السياسي السني يعي تماما بأن وجوده السياسي مرتبط بالخضوع والتبعية، وأن دوره مرسوم مسبقا ولا يمكن له الخروج عنه. وأن من يرفضون فكرة الإخصاء، عليهم تحمل مواجهة الإقصاء المنهجي عبر آليات متعددة (التهديد، والاجتثاث، والملاحقة القضائية، والنفي)!

مقالات ذات صلة