
ماذا لو أعلن العصيان المدني في إسرائيل؟
جواد بولس
حرير- قبل سنوات كان مجرد تعاطي المواطن العربي في إسرائيل مع قضية العصيان المدني يعدّ شططاً سياسيا، أو ضربا من ضروب المزايدة القومية الرومانسية، بينما كانت تعدّه المؤسسة الإسرائيلية الأمنية تحريضا على الدولة، ودعوة للإخلال بالنظام العام، وخطرا على سلامة الجمهور. لم يتغير الموقف الإسرائيلي الرسمي تجاه «حق» المواطنين العرب بالتفكير في هذه المسألة، بل ازداد حدة وقسوة ونفورا.
لم يحدث أن بحثت قيادات المجتمع العربي في إسرائيل ومؤسساته، المُجمع على شرعيتها، خيار العصيان المدني بشكل رسمي وعلني ومعمق على الإطلاق. ولم يكن الخوف من ردة فعل المؤسسة الإسرائيلية، السبب الرئيسي أو الوحيد برأيي، الذي منعها من ذلك، بل كان نتيجة لنضوج وعي القيادات، التي وقفت في طليعة نضال المواطنين العرب وهندسته ورسمت أنماطه وقررت وسائله، ولشعورها بحجم المسؤولية، دفعاها لتحييد خيار العصيان المدني، واختيار أنماط نضالية أخرى ضمنت عمليا بقاء البقية الباقية في وطنها، خلافا لمن هُجّروا أو هاجروا عام 1948.
حاول ويحاول بعض المفكرين والمحللين، من حين لآخر، مراجعة مواقف تلك القيادات وإخضاع خياراتها السياسية للنقد وللتحليل؛ ويطلق بعضهم باستخفاف على مواقف مَن قادوا معارك الصمود والبقاء وبناء الهوية اسم بناة «سياسة الاندماج»، بسبب نهجهم «المهادن» ومطالبتهم بالمساواة كمواطنين في إسرائيل واعتمادهم، في سبيل تحقيق ذلك، وسائل نضال قانونية، راعت أعلى درجات الحيطة والحذر، واستبعدت خيارات «مقاومة ثورية بديلة ومجربة»، كالعصيان المدني وغيره. لست في معرض مناقشة هذه المسألة واختلافات الرأي فيها، لكنني أفترض أن من الانصاف الحكم على أي قرار، لاسيما إذا كان مصيريا، بنتائجه المتحققة في زمانها ومكانها، ووفق المعطيات والظروف التي سادت، وإلا لكبرنا وروينا حكايتنا نحن أيضا «لمن يرثون بنادقهم سيرةَ الدم فوق الحديد.. فالبيوت تموت إذا غاب سكّانها»، هكذا تعلّمنا من «الحصان الذي بقي وحيدا». من المفارقات العجيبة أن يرمينا الزمان في هذه الأيام بما لم نحسب له حسابا؛ فقد بدأنا في السنوات الأخيرة نسمع أصوات بعض الفئات والشرائح اليهودية، وهي تنذر وتحذر من خطورة الجنوح اليميني المتسارع الحاصل داخل المجتمع اليهودي، الذي تقوده قوى يمينية صهيونية قومية متعصبة ودينية متزمتة، وهي تحمل مشروعا للسيطرة على مؤسسات الحكم في الدولة، وعندما فشلت تحذيرات هؤلاء ونجحت قوى اليمين بكسب الأكثرية المطلقة في الانتخابات العامة الأخيرة، وما زالت تسعى لتثبيت ما يسمى «حكم الأكثرية المطلق «، عندها، بدأ معارضو الحكومة بإطلاق مظاهرات الاحتجاج، ودعوا الشعب للخروج إلى الشوارع للمواجهة وإفشال مخطط الحكومة. وقد اطلقت بعض قيادات تلك المظاهرات دعوة إلى العصيان المدني غير العنيف، برز من بينها، أيهود براك رئيس الحكومة ورئيس الأركان الأسبق، ودان حلوتس رئيس الأركان الأسبق، اللذان أكدا واجب المواطنين إعلان العصيان المدني ومواجهة حكم الديكتاتورية واستبداد الأكثرية.
وصلت المظاهرات الاحتجاجية إلى مرحلة متقدمة ومؤثرة بعد أن شارك فيها مئات آلاف المواطنين، إلا أن هجوم حماس في السابع من أكتوبر 2023 خلط الأوراق، وأدى إلى وقف الاحتجاجات، وتحوّل دعم الإسرائيليين بفئاتهم وشرائحهم لصالح حرب الحكومة على غزة، وهو ما جنده نتنياهو لدعمه ولإسناد حكومته ومخططاتها. لم تكتف حكومة نتنياهو بمشروعها العسكري التوسعي، بل استمرت، بالتوازي معه، بتنفيذ انقلابها القضائي، ما استفز القوى السياسية المعارضة، فرأيناهم يخرجون مجددا إلى الشوارع مطالبين بإرجاع المخطوفين، كشعار رئيسي وموحِّد لجموع المحتجّين، ومطالبين بحماية الديمقراطية والدعوة إلى إفشال مخطط الحكومة. لا يستطيع أحد أن يتكهن كيف ستنتهي المواجهة الحالية بين حكومة نتنياهو ومؤيديها، وقوى المعارضة، خاصة على خلفية تصعيد جيش الاحتلال الإسرائيلي اعتداءاته العسكرية، التي من أهدافها إبقاء المواطنين الإسرائيليين أسرى لحالة الطوارئ والحرب، وحذرين من الانتقال إلى مرحلة مواجهات جديدة، بدأت تطالب بها بعض القيادات السياسية والشخصيات الرمزية. ففي الأشهر الأخيرة بدأنا نسمع أصواتا لافتة أطلقتها شخصيات وازنة، طالبوا فيها بضرورة اعلان العصيان المدني، وعدم الانصياع لقرارات الحكومة ولقوانينها، والاستعداد لدفع ثمن هذه المواقف.
برز صوت الجنرال عامي أيلون رئيس جهاز المخابرات العامة وقائد سلاح البحرية السابق، الذي نادى في سبتمبر الماضي في مظاهرة جرت في مدينة حيفا بضرورة إعلان العصيان المدني، ودعا الحاضرين إلى بدء الاستعدادات لتنفيذ هذه الخطوة. ومثله أعلن بروفيسور يتسحاك زمير، الذي شغل في الماضي منصب قاض في المحكمة العليا والمستشار القضائي للحكومة ومحاضر جامعي بارز، معارضته لمخططات حكومة نتنياهو، لكنه خطا في مارس الماضي خطوة إلى الامام حين أعلن وكتب، أن العصيان المدني في ظروف معينة هو قرار مشروع. أما زميلته قاضية المحكمة العليا السابقة أيلاه بروكاتشي فقد أطلقت بدورها في الأول من أبريل الجاري تصريحا قالت فيه، أمام حضور واسع من الصحافيين والإعلاميين والأكاديميين: «في الأيام العادية كانت آداب المهنة تحول بيني كقاضية، وبين مشاركتي في المظاهرات والاحتجاجات الشعبية، لكن الأيام الحالية ليست عادية»، وأفادت بأنها تشارك في الاحتجاجات، وأضافت «حتى إننا يجب أن نأخذ بالحسبان إمكانية العصيان المدني ونقبل الأثمان، التي قد يدفعها من يختارونه. سيشمل العصيان المدني عدم الانصياع للقوانين، شريطة المحافظة على قاعدة حديدية واحدة وهي، عدم اللجوء إلى العنف». جاءت أقوالها في مؤتمر دعت اليه جريدة «هآرتس» وجمعية «زولات» التي ترأسها النائبة السابقة عن حزب ميرتس زهافا جلئون، وكان عنوان المؤتمر «الثورة على الإعلام» وتحدث فيه عدد من الشخصيات البارزة ونخبة من الإعلاميين الذين أجمعوا على أن الانقلاب الذي تقوم به حكومة نتنياهو لا يمكن أن يمر ويجب الوقوف في وجهه وإفشاله، وإلا فلن تبقى إسرائيل ذلك المكان الملائم لمعيشة أولادهم وأحفادهم.
يرمينا القدر بما لم نحسب له حسابا، فها هو يقدم لنا ولكل من عتب أو انتقد «قيادات ما بعد النكبة»، أو هاجمهم لأنهم أخطأوا حين اعتمدوا ما اعتمدوه من سياسات «مهادنة»، يقدم فرصةً لتقييم الأمور من جديد وإمكانيةً لإعلان موقف إزاء ما تقوم به حكومة نتنياهو، وهي تخطط وتهدد بتنفيذ نكبة جديدة بحقنا. فهل من الحكمة اليوم أن يعلن المواطنون العرب في إسرائيل العصيان المدني، لاسيما بعد أن طالبت بإعلانه بعض القيادات اليهودية؟ أسأل وجميعنا يعلم أننا، نحن المواطنين العرب في إسرائيل، سنكون في مقدمة صفوف الضحايا لسياسات حكومة نتنياهو، ونعلم كذلك أن محنتنا الحالية لم تبدأ في السابع من أكتوبر 2023 لكنها اختمرت بسببه، وصرنا بعده أقرب إلى مرمى القناصة وإلى فوهات النار وإلى «خزانات الشاحنات». لقد كان حدس القيادات والمواطنين بعد أكتوبر مرشدهم، فتصرفوا، كمجتمع منكوب وخائف وعاقل في الوقت نفسه، بنضج وبمسؤولية، كما أملت عليهم المعطيات وسمحت لهم الاحتمالات والبدائل، فتوافقت مواقف «الأكثرية المهادنة» مع مواقف أكثر الفرق «راديكالية وثورية»، وجميع الحركات الدينية المستنفرة، لقد سكت الجميع وصلّوا أن تمرّ العاصفة على أمل أن تزهر العناقيد بعدها؛ لكن عاما ونصف عام مرت ولم تزهر إلا «عناقيد الغضب»، وبقينا نحن «عالقين وعاقلين» نتفرج من «مقاعدنا» على فريقين يهوديين يتباريان في ملعب كأنه ليس ملعبنا. فهل سيأتي، بعد جيل، من سيتّهم قيادات اليوم بأنهم كانوا جيلا مهادنا؟ وأين الذين آمنوا بأساليب «مقاومة ثورية» بديلة وأكثر نجاعة؟
قد يقول البعض: دعوهم، يهود يقاتلون يهودا، وفئة تعصى مكائد فئة ضالة. ويقول آخر ما لنا نحن بعامي وأيهود ويتسحاك وأيلاه، فكلهم شاركوا، كل من موقعه، في ذبح الضحية، وما زلنا نحن الضحية. واقول: هذا الكلام صحيح لكنه ترجم في المعطيات الحالية خطأ؛ فالضحية كي تنجو، عليها أن تواجه ذابحها بحكمة وبعقل وبإصرار، هكذا علمتنا قيادات ما بعد النكبة؛ وإذا كانت لوحدها غير قادرة، فلتفتش عن ضحية أو ضحايا أخرى وتحالفها، لأنهما معا قد تنجوان، فماذا لو أعلن بعض اليهود عصيانا ضد حكومة اليهود؟