التطورات في سوريا: بين «إعدام ميت» و»الهري»

يحيى كامل

حرير- ليس من قبيل المبالغة أن أزعم أن مسار الأحداث في سوريا أدهش الجميع بسرعة وتيرته والسهولة الظاهرية التي تقهقرت بها قوات النظام، وبالأدق ما يُسمى بالنظام، أمام الحركات العسكرية المسلحة، التي تقدمت بسرعة كاسحة تساقط معها وأمامها عددٌ من المدن على رأسها مدينة حلب بكل أهميتها ومكانتها التاريخية والجغرافية والاقتصادية. من الطبيعي والمتوقع أن يحتل ذلك التقدم المزلزل صدارة المشهد، ويستحوذ على الاهتمام، خاصةً أن إسرائيل وصلت بالرأي العام، العالمي بالأخص، في الشأن الغزاوي إلى حيث تريده أن يكون: ألف القتل والدمار، حيث صارت أعداد القتلى بالعشرات، بل والمئات حدثاً يومياً معتاداً، بل أخشى أن أقول باهتاً وسط بركةٍ آسنةٍ من التبلد، حيث لم يزل وقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانية هو الموقف الرسمي المعلن، رغم خروقات إسرائيل المتكررة.

كما أنه من الطبيعي والمفهوم أن يستشعر الجمهور العربي القلق، لاسيما وأن خريطة القوى على الأرض والصورة لم تزل غامضة من حيث تعقيدات الواقع السوري، بكثرة فصائله وعلاقاتها بداعميها الخارجيين، سواءً من القوى الإقليمية الأهم كتركيا وإيران، أو العالمية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، وأن مخاوف مشروعة من الخلفية والمرجعية العقائدية لبعض هذه الفصائل وما قد تؤدي إليه من ممارسات، خاصةً في حق المعارضين والمغايرين دينياً وطائفياً تلح على الناس الذين ما زالوا للأسف في خانة «المفعول به»، كما أن التوقيت، بعد اتفاق وقف إطلاق النار في لُبنان وما مُني به حزب الله من ضرباتٍ موجعة، رغم صموده، قابلٌ أن يؤخذ على محمل المؤامرات. غير أن ما أجده غير طبيعي، بل ومحزن، أن أغلب التعاطي مع هذا الشأن لم يزل يصدر عن قناعاتٍ وأفكارٍ مسبقة، لا تمت إلى ما قبل 2011 وحسب، بل إلى قرابة النصف قرنٍ الماضي، كأن شيئاً لم يحدث ولم تجد أي معطياتٍ على الإطلاق، فالرطانات وبطاريات الدفاع هي هي، كأن كل الانتكاسات والهزائم والتشرذم لم يدفع بالكثيرين إلى إعادة تقييم المواقف والمنطلقات. لا أزعم أنني أعرف تماماً ما يجري على الأرض، إلا أنني أكاد أجزم أيضاً بأن كثيرين ممن يصدرون أحكاماً صارمة، واثقة ويقينية عن المؤامرات لا يعرفون أكثر مني بكثير. في هذا السياق، أزعم أن المتاح أمام كثيرين (وأنا منهم) هو إبداء بعض الملاحظات من باب التذكير والتدبر ومحاولة البحث وتقرير ما نعلم بدرجةٍ عالية من الثقة إن لم يكن اليقين.

نظام بشار الأسد

يعرب الكثيرون عن قلقهم ويتباكون خيفةً على مصير نظام الأسد وسقوطه، الذي يراه البعض محتملاً والآخر وشيكاً، والبعض ينطلق من خوفٍ على الدولة، التي قد تحل محلها الفوضى، والبعض الآخر يمضي إلى آخر الشوط مغرقاً إياه بصفات الوطنية والعروبية والقومية والتقدمية والمقاومة إلخ؛ حقيقةً لا أعلم هل يفكر هؤلاء جيداً وبترو قبل أن يندفعوا، أو يستجيبوا إلى إلحاح الحماسة، أم أنهم يتعامون أم يهرجون أم يستخفون بنا أم يخدعون أنفسهم بخلقٍ واقعٍ موازٍ، بعد أن سقطت كل الأقنعة تقريباً ولم يبق سوى الواقع العربي المترهل بقبحه؟ كأنهم نسوا أن نظام الأسد الانقلابي، بدأ عهده بأسر كل من أطاح بهم من رفاقه في قيادة الحزب، الذين لم يخرجوا من السجون إلا ليحتضروا ويموتوا بعد أن طواهم النسيان، وأن هذا النظام هو الذي أجهز على ما تبقى من مجالٍ عام وحرياتٍ سياسية في البلد، وقام بالفرز والانتقاء الطائفيين في القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، وفي التسلل والإحلال في صفوف حزب البعث الحاكم، وأنه فرض حكماً سلطوياً لم تعرف له سوريا مثيلاً من حيث القمع والدموية، مكللاً إياه بمجزرة حماه في 1982؟ أما في التاريخ الحديث جداً وإبان 2011، ألم يسقط النظام السياسة وحلولها أمام التعامل العسكري، منذ أول يوم فأغرق الثورة أو الحرك السوري، في بحرٍ من الدماء ما دفع إلى العسكرة؟ ألم يخرج «الجهاديين»، أولئك الذين يخيفون المتباكين على النظام «المدني» في سوريا الآن، من سجونه وسلحهم ليسمم ويفسد الحراك الثوري؟

السؤال الأهم والحقيقي؟ أين هذا النظام وما الذي تبقى منه لُيبكى عليه؟ لقد كان على وشك الانهيار بعد أن اندحرت قواته، ولم ينقذه سوى التدخل الخارجي، والروسي خاصةً، بعد أن استهلك الدعم الإيراني المسنود بقوات حزب الله. لولا هذه القوى لما بقي بشار الذي صار من الناحية الفعلية مجرد عمدة أو مختار لدمشق وبعض ضواحيها والمدن الأخرى، اسمياً أكثر من أي شيء، وفقاً لتفاهمات بين اللاعبين الحقيقيين الذين أوقفوا إطلاق النار ورضوا أو تصالحوا على تقاسم مواطئ الأقدام والنفوذ. لولاهم، أو لو اتفقوا على رحيله ونظامه لما بقي بضعة أيام، فهو لا يستند إلى قوة داخلية وما تبقى من جيشه مترهلٌ متفسخٌ رديء التسليح والتدريب، والاقتصاد مهلهل حتى صار يعتمد على تصدير مخدر الكبتاغون للحصول على العملة الصعبة. هذا النظام ميتٌ من الناحية الفعلية ومنذ زمنٍ بعيد، وما وجود بشار إلى حلية لإكساب الوجود الآخر، الحقيقي، صيغةً ما شرعية توحى بنوعٍ من الاستقرار وإملاء الإرادة؛ لذا فلئن أُسقط، فر أو رحل فما ذلك إلا إعدامٌ للميت أو دفنه.

«الهري»

دخلت هذه الكلمة في القاموس الدارج في مصر بمعاني خاصة تختلف وتتباين عن معناها اللغوي الأصيل؛ في الاستخدام الدارج الآن تعني النقاشات المحتدة حامية الوطيس، التي تستمر في جولات أخذٍ وردٍ يستهلك الناس فيها أنفسهم ذهنيا وعصبياً، وقد يصل الأمر بينهم إلى الاحتداد على بعضهم بعضا، ومن ثم الشجار والقطيعة أحياناً، كما أن ذلك الاستخدام يحمل ضمناً، ربما من قبيل السخرية المريرة، كون هذه النقاشات عبثية تماماً فاقدة الجدوى. أرى أن كثيراً من النقاشات والانحيازات بصدد التطورات الميدانية في سوريا، وفي ضوء ما أسلفت، تندرج في سياق «الهري» بمعناه الذي وضحت، ناهيك عن كون التصورات والرؤى والألفاظ تنتمي إلى زمنٍ مضى وواقعٍ ماضٍ. من ذلك مثلاً التباكي القومجي على الدولة القومية أو دولة المواطنة: أولاً، أين هي هذه الدولة السورية؟ لقد دمر نظام آل الأسد هذه الدولة أو الحلم بها؟ أما الخوف من الفصائل الجهادية، وهي مخيفة بحق، فلا بد من التذكير بأنها نتاج تجفيف المجال العام السياسي ومصادرة، بل اعتقال العمل العام المقترن مع الدموية والقمع، ومن ناحيةٍ أخرى يتعين التذكير أيضاً بأن نظام الأسد، أباً وابناً، لم يكن بعيداً عن «الأصوليات» المسلحة الدموية فقد انخرط في مشروعٍ أصوليٍ آخر هو مشروع إيران وحزب الله، ولا حاجة للتذكير بكيف تعامل النظام الإيراني مع معارضيه، خاصةً إبان الثورة الإيرانية بمحاكمها وتصفياتها الجسدية، لا لأنصار الشاه فحسب، بل للفصائل السياسية التي عارضت الشاه وعلى رأسها أو في عدادها حزب «توده» اليساري الذي اعتقل من كوادره آلاف ناهيك عن الذين أعدموا وصُفوا جسدياً، ولا الوقت مناسباً للسؤال عن من اغتال مهدي عامل وكوكبة من قيادات الحزب الشيوعي اللبناني مع التذكير بعلاقة النظام السوري «التقدمي الوحدوي» بهذه الاغتيالات طيلة الوقت ( من يذكر كمال جنبلاط)؟

لكن «الهري» بمعناه الأوضح والمثالي يتجلى حين يختلف الناس مع أو ضد في حين أن الفاعلين الأساسيين في التوازنات السياسية، كما أسلفنا، كلهم خارجون عن سوريا، من الولايات المتحدة إلى روسيا إلى إيران إلى تركيا وإسرائيل ودول الخليج، وسيكون بقاء النظام وبشار من عدمه نتيجة لتوازنهم النهائي على الأرض، كما أنه قمة الهري الحديث عن المؤامرات متناسين ملايين من المهجرين لهم مصلحة في سقوط النظام والعودة إلى مدنهم وأهاليهم، يحركهم غضبٌ تاريخي محتدم على نظامٍ بطش ودمر وشرد فنتناسى معاناتهم واستعدادهم، بل انتظارهم للحظة المناسبة التي يستطيعون منها وفيها العودة والثأر من هذا النظام الميت المسخ، ومن الطبيعي أن تكون لحظة ضعف وانحسار أعوانه، ومن ثم انكشافه، هي اللحظة المناسبة.

إن أدمغتنا المسكونة بالمؤامرات تنسينا أن هناك ما هو أبسط منها: المصالح وتوافقها، لا ننكر المؤامرات، لكنها ليست الشيء الوحيد. لا شك أن الوضع في سوريا معقد، لا يمكن اختزاله، ناهيك عن شرحه بقاموس ورطانات الخطاب القومي العربي المستمد من حقبٍ سابقة، كانت الصورة فيها أوضح كالاصطفافات، وفي هذا السياق لا بد من التأكيد على كون النظام السوري وأشباهه هم من بدأوا بخلط الأوراق وفرض الثنائيات البغيضة من عينة أنا أو الفوضى أو إرهابي (كنظام) مقابل إرهاب الجماعات المتطرفة. لن يفيدنا في شيء تناسي أن ما نراه الآن ليس سوى حصاد كابوس هذه الأنظمة، فلئن سقطت فهي أهلٌ لذلك ولا تستحق ما هو أفضل منه، كما أن المد في عمرها لن يفيد في شيء سوى في إعادة إنتاج الظرف الذي أدى إلى الإرهاب والتطرف، فلن يكون ما نفعل سوى من قبيل المداواة بالداء، ناهيك عن كون الهري تحديداً لن يغير من مصيرها في شيء.

إنني أتفهم الخوف من المقبل، من احتمالات التطرف المذهبي والطائفي، لكن هناك دائماً خيارٌ ثالث وهو التريث والتأكيد على البحث عن حراكٍ شعبي بديل إذا ما اتضح أن القوات المتقدمة ليست سوى مرتزقة (وهو ما أشك فيه باعتبار ملايين المشردين). لو أن لي أن أراهن فلن أراهن على هذا النظام ولا على الفصائل الإرهابية، بل سأراهن على الملايين من المشردين الذين خبروا الثورة والشتات والقهر وحملوا السلاح على أن يعدلوا الميزان ويقيموا دولة المواطنة التي لم يقمها نظام آل الأسد في أي مرحلة.

مقالات ذات صلة