إسماعيل هنية وإسماعيل الغول.. الذبيحان

أنس بن صالح

حرير- «ضلالا لهذا الموت من ظن نفسه؟

ومنذ متى يخشى المنايا مريدها؟»

(تميم البرغوثي)

لم يكن المشترك بين إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحماس، وإسماعيل الغول، مراسل الجزيرة في غزة، انتسابهما للرقعة الجغرافية نفسها أو مجرد اسم مثقل بالرمزية في سيرة الإسلام الأولى. فيد الغدر الآثمة امتدت إليهما بفارق سويعات، طالت الأول في مهجعه في طهران وأزهقت روح الثاني في مخيم الشاطئ. وعلى ما في مشهد القتل الصادم وتفاصيله المرعبة من بشاعة مثيرة للاشمئزاز والغثيان يراد بهما الترويع والترهيب، يجسد استشهاد الرجلين الدرامي، وقد باعدت بينهما الجغرافيا قسرا لا طوعا، حالة من وحدة المصير هي أقرب إلى قدر محتوم ارتضياه لنفسيهما وشرفا به.

فالشيخ الجليل، نذر نفسه لخدمة قضية شعبه منذ شبابه المبكر، وكان يحمل روحه على كفه حيثما حل وارتحل لا يرهبه أن يتربص الموت به وبنسله، فيما الشاب الجسور اختار أن يكون عين العالم وأذنه على ما يجري في غزة من فظاعات وأهوال يقيم الحجة على جرائم الاحتلال المارق ويوثقها صوتا وصورة، وينقل يوميات أهل غزة وفصول معاناتهم حتى بعد أن أدرك أنه بات في دائرة الاستهداف وصار رأسه مطلوبا من الإسرائيليين. هو اختيار واع إذن للقدر وللمصير، وتسليم بما يترتب عنهما من نتائج وتبعات مع فائض من السخاء في بذل النفس والفداء والتضحية ونكران الذات في سبيل قضية شطبها العالم من اهتماماته قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول مثلما يكنس الغبار تحت السجاد.

وإذ توارى مشهد الجريمة وملابساتها وما أثير حولهما من تساؤلات واتهامات متواترة، ولم تعد ذاكرة الفلسطينيين الموشومة تختزن منه إلا عناوين وشذرات تصدرت الصحف ونشرات الأخبار، تطفو على السطح الحمولة الرمزية لاستشهاد الرجلين. فكلاهما، كل على طريقته، قد حمل هم القضية الفلسطينية وشجونها. ظل «أبو العبد»، ابن مخيم الشاطئ، وقد عانى الأسر والإبعاد والمنفى، حريصا على وحدة الصف الفلسطيني حتى ختم الله له بالشهادة كما كان يتمنى. وبديهي أنه لم يكن من اليسير لمن كان في موقعه إدارة تقلبات المرحلة وما اكتنفها من ضغوط ومحاولات تأثير والتفاف من القريب قبل البعيد. وحتى بعد أن تعاظمت المسؤولية وزاد العبء بعد «طوفان الأقصى»، أدار الرجل بحنكة وثبات ما رافق هذه المرحلة النضالية من تحديات وإكراهات وضغوط على حركة حماس.

كذلك فعل إسماعيل الغول. ظل على مدى عشرة أشهر يلاحق الخبر والصورة بلا كلل أو ملل. من باب الهوى وبيت حانون مرورا بالمستشفى المعمداني وصولا إلى بيت لاهيا ومجمع الشفاء الطبي، جاب إسماعيل الغول بحماسة شديدة هي أقرب إلى الاندفاع محافظة شمال غزة شبرا شبرا يصل الليل بالنهار متابعا يوميات الحرب وشاهدا على الإبادة الجماعية بحق أبناء جلدته. كان إسماعيل محبوبا من الناس إذ ألفوا وجوده بين ظهرانيهم، يشاطرهم آلامهم وآمالهم، له ما لهم وعليه ما عليهم. أستحضر في هذا المقام صورة بالغة الرمزية علقت بذاكرتي لطفل مغبر حافي القدمين يرتجف خوفا وفزعا وهو يهرول باكيا صوب إسماعيل بعد أن تعرف عليه « إسماعيل .. إسماعيل!» ، ارتمى في أحضانه وأبلغه بصوت متقطع أن الاحتلال الإسرائيلي قصف منزله وأنه يجهل ما آل إليه مصير أسرته. طمأنه إسماعيل وطيب خاطره وهدأ من روعه بحنو ورفق وركض باتجاه الموقع المستهدف. هذا ما كان عليه إسماعيل الغول .. وليس ما ادعاه الكذاب الأشر أفيخاي أدرعي زورا وبهتانا.

«الله يسهل عليكما أيها الذبيحان».

مقالات ذات صلة