التطبيع-الثقافي-ومعضلة-غروسمان

سليمان المعمري

موقف مشرِّف الذي اتخذته الكاتبة العُمانية بشرى خلفان وعدد من الكتاب الكويتيين (منى الشمري، وعلي عاشور الجعفر، وأحمد الزمام، وناصر الدوسري) هذا الأسبوع بالانسحاب من “مهرجان طيران الإمارات للآداب” المُزمَع تنظيمه في الفترة من الثالث إلى الثالث عشر من فبراير المقبل، احتجاجًا على تطبيع المهرجان بدعوته الكاتب ديفيد غروسمان، الروائي الإسرائيلي الفائز بجائزة مان بوكر عام 2017. وهو موقف يشكّل ذروة الوعي من المثقف في الخليج بخطورة التطبيع الثقافي مع كيانٍ محتلّ، كان ولا يزال يعتدي على أرض فلسطين ومقدساتها وشعبها الصامد، ويمكن تلخيص أهمية هذا الموقف بعبارة تنوقلتْ عن بشرى خلفان بشكل واسع بُعَيد الانسحاب:” من يتخلّى عن قضية فلسطين اليوم، سيتخلى غدًا عن وطنه”.

يتحجج بعض المثقفين العرب في تبريرهم للتطبيع الثقافي بمقولة “اعرف عدوّك” التي باتت ذريعة لأي تطبيع ثقافي. والحق أن معرفة العدو أمر مهمّ جدًّا، وينبغي الاهتمام به، ولكن يمكن تحقيقه بطرق شتى غير الطرق المسيئة للقضية الفلسطينية التي منها دعوة هذا العدوّ إلى بلداننا، والاحتفاء به، والسماح له بتبييض صورته السوداء، خصوصًا إذا كان من عينة غروسمان تحديدًا الذي يحلو للبعض تسميته “ضمير إسرائيل”، انطلاقًا من رواياته التي تصوّر المأزق الوجودي والأخلاقي الإسرائيلي (“امرأة هاربة من نُذُر الشر” و”ابتسامة الجدي” و”حصان يدخل إلى الحانة” الفائزة بالبوكر، وغيرها)، وفي تجاهل متعمّد لمواقف غروسمان الشخصية وتصريحاته المعلنة.

وإذا كان غروسمان سيتحدث في السادس من فبراير القادم خلال مشاركته في مهرجان طيران الإمارات عن “مسيرته الأدبية في الكتابة عن الحرب والسلام”، فينبغي ألا ينسى ذكر أنه في عز الانتفاضة الفلسطينية الثانية وقع مع عدد الأدباء الإسرائيليين الذين يمثلون اليسار الإسرائيلي

رسالة موجهة إلى القيادة الفلسطينية نُشِرت في الصحف العبرية والعربية في يناير من عام 2001 مفادها: “نرفض حق عودة اللاجئين الفلسطينيين”، كما عليه أن يتذكّر أنه في ذروة اعتداء إسرائيل على غزة أواخر عام 2008 نشر مقالًا في صحيفة هآرتس في 30 ديسمبر 2008 برَّر فيه هذا العُدوان الإسرائيلي وسمّاه “الرد الشرعي العنيف”!. وعليه أيضًا ألا ينسى أنه أيد حرب تموز على لبنان عام 2006 التي اعتدتْ فيها إسرائيل على لبنان، ولم يغيّر رأيه فيها إلا مقتل ابنه أوري، المشارك في هذه الحرب.

في ذلك العام (2006)، وبعد ثلاثة أشهر فقط من مقتل ابنه وقف غروسمان في أحد ميادين “تل أبيب” خطيبًا وسط مائة ألف شخص في الذكرى العاشرة لاغتيال رابين قائلًا: “الكارثة التي حلت بعائلتي وبي لا تمنحني حقا إضافيا في الجدل الجماهيري. ولكن يبدو لي أن الوقوف أمام الموت والفقدان يجلب معه أيضا الحكمة والنباهة”، فما هما الحكمة والنباهة اللتان خرج بهما غروسمان من مقتل ابنه في تلك الحرب العبثية؟ لقد خاطب إيهود أولمرت رئيسَ الوزراء الإسرائيلي حينئذ بالقول:”توجه إلى الفلسطينيين، يا سيّد أولمرت،[..] توجه إلى المعتدلين من بينهم”.

إذن فالمعضلة ليست في الاحتلال الإسرائيلي، ولا في الاستيطان، ولا في خنق القرى الفلسطينية وتجويعها، ولا في تهجير أصحاب الأرض، وإنما فقط في “الفلسطينيين غير المعتدلين”!. هذا الطرح المتهافت، فُنِّد بعد أسبوعين فقط، ليس من قِبَل كاتب فلسطيني أو عربي، وإنما من الصحفي الإسرائيلي أوري أفنيري في مقال له بعنوان “معضلة غروسمان” نَشر ترجمتَه إلى العربية موقعُ “مدار” في 21 نوفمبر 2006م. يقول أفنيري: (اقتراح غروسمان يحرف مسار النقاش إلى أفق “مع من نتحدث؟)” و”مع من لا نتحدث”، هذا عوضًا عن تقرير ما يجب التحدث عنه بشكل واضح: إنهاء الاحتلال، وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، وإعادة الخطّ الأخضر، وحل قضية اللاجئين)).

بعد ذلك بنحو عشر سنوات، وتحديدًا في 17 مارس 2016، سألتْ صحفية من موقع “أورونيوز” غروسمان  بوضوح: “إسرائيل أصبحت دولة منبوذة بشكل متزايد في الخارج. وأنت تسافر كثيرًا، هل سبق وشعرت بالخجل من كونك إسرائيليًّا؟” فردّ عليها بالقول: “أشعر بالخجل مما تقوم به حكومتي، وليس من كوني إسرائيليًا. ما زلت أعتقد أن هذا البلد مكانٌ رائع. تعلمين أننا نميل أحيانًا إلى مجرد انتقاد إسرائيل بالكامل، وننسى كيف جاء هذا البلد إلى حيز الوجود، بعد ثلاث سنوات من المحرقة، وحقيقة أنه بنى نفسه حقًّا من الرماد وأوجد هنا ثقافةً عظيمة فضلًا عن الزراعة والتكنولوجيا والصناعة والعديد من طبقات فريدة من نوعها تمامًا من الحياة. وكما قلت، أنا لا أريد أن أعيش في أي مكان آخر”.

وإذن، فإنه إذا كان هذا هو “ضمير إسرائيل” الذي يحاول بعض المهرولين إلى التطبيع تسويقه لنا، فإن ضميرنا نحن العرب مختلف تمامًا، ضمير يناصر القضايا العادلة من حيث المبدأ، ضمير تمثله بشرى خلفان، ومنى الشمري، وعلي عاشور الجعفر، وأحمد الزمام، وناصر الدوسري، ومئات قبلهم وبعدهم ممن لا يرتضون أن يكونوا  مطية لأي تطبيع ثقافي مع الكيان المحتل.

– صحيفة عُمان
https://www.omandaily.om/أعمدة/na/التطبيع-الثقافي-ومعضلة-غروسمان

 

 

 

مقالات ذات صلة