عن القهوة في يومها العالمي… سليمان المعمري

لا أحب القهوة ولا أكرهها. أستطيع القول إن شعوري تجاهها محايد؛ إن حضرتْ فأهلا بها، وإن غابت لبعض شؤونها لم أنتبه لغيابها. ولكن هذا لا ينبغي أن يُغضِب أحدًا، خصوصًا عشاقها الذين يتفننون في التغزّل بها، والتعبير عن أهميتها في حياتهم. وأزعم أن القهوة لو كانت من ذوي الأحاسيس المرهفة فستفرح بتذكّري لها الآن في يومها العالمي (الأول من أكتوبر من كل عام) أكثر من فرحها بتذكّر عشاقها لها، فالفضل ما شهد به غير المحبين، أما العشاق فهل نسوها أصلًا لكي يتذكروها؟.

على أنني أعترف أيضًا أن القهوة مهمة، بل شديدة الأهمية، وإلا لما خُصِّصَ يوم عالمي للتذكير بها، ولما أُلِّفتْ فيها الكتب المتخصصة، ولما أُسِّست من أجلها أكاديميات خاصة لتعليم صنعها بأفضل طريقة ممكنة، ولما تغزّل بها كبار الشعراء والفلاسفة، وقبل هذا وذاك لما امتلأ العالم بالمقاهي التي ما سُمِّيَتْ بهذا الاسم إلا اشتقاقًا من القهوة.
قبل نحو سنتين طلب مني صديقي حمود الشكيلي المشاركة بنص في كتاب جماعي يُعِدُّه عن القهوة للاحتفال بيومها العالمي، يومئذ كان جوابي: “إذا قررتَ أن تعدّ كتابًا عن الشاي فأنا معك”، لكن حمود أعد الكتاب دون الحاجة إليَّ، بل ودشّنَ به دار نشر جديدة، فكان هو كتابها الأول، وكأنه يود أن يقول ضمنيًا إن كل شيء جميل يبدأ بالقهوة، مثلما كان يبدأ الفيلسوف الألماني كانط يومه بعد استيقاظه في الخامسة صباحا بشُرب القهوة لتكون فاتحةً ليومه.
قرأتُ هذه المعلومة عن كانط في كتاب “قهوة نامه” للشاعر والمترجم السعودي عبدالله الناصر، الذي اختار له هذا العنوان ليُذكِّرنا بملحمة “شاهنامه” للفردوسي، وهو عنوان يعني بالفارسية “ملحمة الملوك”، وكأن الناصر يقول إن القهوة أيضا لا يُمكن الكتابة عنها بكتاب عادي، فلا تحتويها إلا ملحمة. وأعترف أن كتابه هذا هو الذي جعلني أعيد النظر في القهوة، بل وأحبها. لنكن واضحين، أنا لا أقصد بــ”أحبها” أنني غيرتُ عادتي فصرتُ من مدمنيها أو محبي شربها، بل من الذين يحترمونها ويقدّرون ما وفّرته -ولا تزال- من مزاج رائق لأمهاتنا وآبائنا الذين لا ينعشهم مشروب كالقهوة، ومن أرضية خصبة لإثبات أهالينا كرمهم لضيوفهم الذي لا يمكن أن يتأتى إلا بها، ومن محفّز إبداعي لكثير من الأدباء والكتاب والمفكرين الذين سماهم عبدالله الناصر “أهل القهوة”، وخصص لهم فصلا في كتابه، هو من أمتع فصول الكتاب.
من “أهل القهوة” الذين تحدث عنهم الناصر الفيلسوف الدنماركي سورين كيركجارد الذي كان مدمنًا عليها، يبدأ يومه بها، ويختمه بها كذلك، ليس لتلهمه أو تساعده على الإبداع كما كان يفعل مدمن القهوة الآخر بلزاك، فقد كان كيركيجارد غزير الإنتاج، وتتساقط الأفكار على رأسه دون توقف، ودون الحاجة إلى قهوة. ويروي الناصر أن كيركيجارد ذهب مرة إلى طبيب واشتكى له ضعفًا مزمنًا، “فقال له الطبيب: أنتَ ضعيف لأنك تدمن القهوة وتمشي قليلا، وطلب منه التوقف عن القهوة وممارسة المشي الطويل، وحين نفذ كيركيجارد النصيحة وعاد للطبيب بعد شهر، مخبرًا إياه بعدم تحسنه، وباستمرار ضعفه، قال له الطبيب: هذا لأنك أسرفتَ في المشي وتوقفتَ عن القهوة. حينها قال كيركيجارد مقولته الشهيرة: “حين أشرب القهوة تكون هي سبب ضعفي، وحين لا أشرب القهوة يتسبب ذلك بضعفي، إن هذا يلخص مشكلة الوجود الإنساني”.
بيد أن رامبو، الشاعر الفرنسي الكبير – وهو عَلَم آخر ممن عدَّهم الناصر من “أهل القهوة”- لم يكن مدمنًا لها مثل كيركيجارد. ونحن نعرف أن موهبة رامبو الشعرية تفجرت في وقت مبكّر من عمره، ثم هجر الشعر تمامًا حين بلغ التاسعة عشرة، بل وبلده فرنسا، ليقضي ما تبقى له من عمر متنقلًا بين أوروبا الغربية والنرويج وقبرص والإسكندرية، ثم إندونيسيا وموانئ البحر الأحمر إلى أن يستقر به الأمر تاجر قهوة في اليمن والحبشة وهو لم يتجاوز الثلاثين من العمر. ثمة مفارقة هنا يقتنصها الناصر، وهي أن “رامبو هو أول من أوصل أجود أنواع القهوة الحبشية إلى ميناء مرسيليا الفرنسي، ومنه إلى مقاهي باريس، حيث كان شعراؤها منشغلين بالضجة التي أحدثها نشر ديوان رامبو “إشراقات” من قِبَل صديقه القديم بول فيرلين، يقرأون قصائد رامبو الشاعر الذي لا يعرفون أين اختفى، ويحتسون في المقهى (دون علمهم) قهوة رامبو التاجر”!
إذن، لم تتعدّ علاقة رامبو بالقهوة علاقة التاجر بسلعته، وهي علاقة محايدة، لذا يمكن أن أعتبره مثلي لا يحب القهوة ولا يكرهها.

جريدة عمان. عدد الأحد 3 أكتوبر 2021م:

مقالات ذات صلة