في العام الثلاثين على خطيئة “أوسلو”

مصطفى البرغوثي

حرير- بعد مرور ثلاثين عاماً بالتمام والكمال على توقيع اتفاق أوسلو، يحقّ لنا، ليس فقط أن نقيّم تلك التجربة التي تركت آثاراً عميقة على الوضع الفلسطيني، بل وأن نقيّم أيضاً المنطلقات والدوافع الفكرية والرؤى التي قادت إلى نهج أوسلو الذي ما زال مستمرا، مشكلا اليوم نقطة الخلاف الجوهرية في الساحة الفلسطينية. ولعل أحد إشكالات الوضع الفلسطيني أن القوى الممارسة لنهج أوسلو تتجنّب (أو ترفض) الدخول في نقاش فكري أو سياسي جدّي حول صوابية هذا النهج أو سلامته، بل تكتفي بالاختباء خلف ذريعة واحدة، “الواقعية” في التعاطي مع وضع سياسي صعب ومعقّد.

كان اتفاق أوسلو فخّاً كبيراً نُصب ببراعة من الحركة الصهيونية للقيادة الرسمية الفلسطينية، بغرض امتصاص نتائج الانتفاضة الأولى التي غيّرت موازين القوى على الأرض، وأجبرت إسرائيل على الدخول في مفاوضات مع الجانب الفلسطيني، لإحداث شرخ عميق في الساحة الفلسطينية، وكسب الوقت لتكريس الاحتلال وتوسيع الاستيطان وبناء منظومة أبارتهايد عنصرية، غرضها تصفية حقوق الشعب الفلسطيني، وانتزاع شرعية فلسطينية وعربية ودولية لمشروع الاستيطان الكولونيالي الصهيوني.

ارتكب الجانب الفلسطيني سبعة أخطاء استراتيجية في مفاوضات واتفاق أوسلو:- أولا، توقيعه من دون اشتراط وقف الاستيطان، كما كان يصرّ الوفد الفلسطيني الرسمي في واشنطن، والذي أديرت مفاوضات أوسلو السرّية من خلف ظهره، ومن دون علمه، ومن دون استشارته. وكان هذا الخطأ بمثابة الخطيئة الكبرى لذلك الاتفاق، والدليل القاطع على ذلك ارتفاع عدد المستوطنين المستعمرين من 121 ألفاً عندما وقع الاتفاق إلى 750 ألفاً اليوم، أصبح لديهم 15 عضواً في الكنيست الإسرائيلي، وأصبحوا يمثلون قوة سياسية فاشية لها دور حاسم في الحكومة الإسرائيلية بقيادة الفاشيين سموتريتش وبن غفير.

ثانيا، انعدام التكافؤ بين الجانبين، حيث اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل وحقها في الوجود مقابل مجرد الاعتراف بالمنظمة ممثلاً للفلسطينيين، بل قَبِل الجانب الفلسطيني بوسم نضاله الوطني ومقاومته المسلحة بالإرهاب، وتعهّد بالتخلي عنها، وقبل الاعتراف بإسرائيل من دون تحديد حدودها، ومن دون أي ضماناتٍ بحقّ العودة للاجئين الفلسطينيين الذين شرّدتهم من ديارهم عبر النكبة والمجازر الوحشية.

ثالثا، كان الاتفاق جزئياً انتقالياً من دون تحديد النتيجة النهائية بإنهاء الاحتلال وقيام دولة فلسطينية مستقلة، بل تتضمّن قبولاً بجعل قضايا جوهرية، مثل اللاجئين وحق العودة، والقدس، والحدود، والاستيطان غير الشرعي، ومياه الأراضي المحتلة، قضايا متنازع عليها، وتحوّلت السنوات الست لإنهاء التفاوض إلى 30 عاماً، وبعد أن ضمنت إسرائيل أن أراضي 48 محسومة إسرائيلياً تدرّجت من اعتبار الأراضي المحتلة أراضي متنازعا عليها عند توقيع الاتفاق، إلى أراضٍ يهودية خاصة باليهود، ومن ثم أقرّت قانون الدولة اليهودية، الذي اعتبر حقّ تقرير المصير في أرض فلسطين التاريخية بكاملها، والتي يسمّونها أرض إسرائيل، محصوراً باليهود فقط. وقد تدرجت الحكومات الإسرائيلية من المماطلة بالمفاوضات سنوات طويلة كما وعد رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق شامير، إلى وقفها بالكامل منذ عام 2014، والادّعاء بعدم وجود شريك فلسطيني. وهكذا سلبت إسرائيل بالتوسع الاستيطاني الأرض، وسلبت بالعملية السياسية الشيء الوحيد الذي منحته لقيادة منظمة التحرير في اتفاقات أوسلو، وهو حقها في التفاوض باسم الفلسطينيين.

رابعا، كان من أكبر الأخطاء القبول بتجزئة الأراضي المحتلة إلى تقسيمات “أ، ب، ج”، وأتاح ذلك لإسرائيل عزل 62% من الضفة الغربية، تسمّى مناطق ج، وتخصيصها بالكامل للتوسّع الاستيطاني، وتجزئة ما تبقى إلى 224 من الغيتوهات المعزولة بالحواجز، والمستوطنات والجدار، والطرق العنصرية المحرّمة على الفلسطينيين.

خامسا، القبول بعقيدة ومبدأ التنسيق الأمني مع سلطات الاحتلال، ما وضع السلطة والقيادة الرسمية في معضلة تناقض وصدام مع شعبها ومع قوى المقاومة الفلسطينية.

سادسا، أحدث اتفاق أوسلو تجزئة للشعب الفلسطيني، وشرخاً وانقساماً سياسياً عميقاً في الساحة الفلسطينية. أصبح قاعدة لانقسامات عديدة أخرى، مثل الانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وبين حركتي فتح وحماس، ولكن الأخطر كان إحداث شرخ عميق بين مكوّنات الشعب الفلسطيني في الداخل (أراضي 1948) والخارج والأراضي المحتلة.

سابعا، فتح اتفاق أوسلو الباب على مصراعيه للتطبيع العربي والدولي مع كيان الاحتلال والتمييز العنصري.

من الناحية الفكرية، بُني نهج (واتفاق) أوسلو على ثلاثة أوهام: الحل الوسط مع الحركة الصهيونية، وحلّ الدولتين بديلا للهدف الاستراتيجي الفلسطيني الأصلي بإقامة دولة ديمقراطية واحدة على كامل فلسطين التاريخية، والدور الأميركي في تحقيق تلك الحلول. وجميعها أوهام أثبتت ثلاثون عاماً عدم صحتها. وإذا كان الاعتقاد بوهم الحل الوسط مع الحركة الصهيونية له ما يبرّره كاجتهاد عندما وقع اتفاق أوسلو نتيجة الضغوط الدولية والظروف الصعبة التي كانت تعيشها منظمة التحرير الفلسطينية، فإن الاستمرار في التمسّك به والمراهنة على نهج المفاوضات، بعد كل هذه السنوات، وبعد كل ما فعلته الحركة الصهيونية وحكّام إسرائيل حتى بأصحاب اتفاق أوسلو، بما في ذلك اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إسحق رابين والشهيد ياسرعرفات، والادّعاء بعدم وجود شريك فلسطيني، يمثل خطيئة لا تُغتفر، ولا مبرّر لها على الإطلاق.

نفّذت إسرائيل، بمنهجية وعن سبق إصرار، ستّ عمليات بعد توقيع اتفاق أوسلو:- الفصل الكامل بين قطاع غزّة والضفة الغربية. فصل القدس عن الضفة الغربية وباقي الأراضي المحتلة. تعميق الاستيطان وتوسيعه، من دون توقّف بهدف التهام الضفة الغربية وتهويدها وضمّها، وتحويلها من محيط فلسطيني فيه أجسام استيطانية غريبة، إلى محيط استيطاني إسرائيلي تُعزَل في إطاره المدن والقرى الفلسطينية كأجسام غريبة. الحصار والخنق الاقتصادي والتحكّم المطلق بالأرض والمياه والحدود والثروات الطبيعية والمجال الجوي والكهرومغناطيسي. الضغط المتواصل على السلطة الفلسطينية لإجبارها على الانفصام عن حركة التحرر الوطني، واحتواء منظمّة التحرير فيها، واستخدام كل وسائل الضغط المحلية والدولية لتحويلها إلى وكيل أمني للاحتلال. تقطيع أوصال الأراضي الفلسطينية وتحويلها إلى غيتوهات معزولة، وتكريس نظام الأبارتهايد العنصري أداة للتعايش مع الواقع الديمغرافي الفلسطيني الذي لم تستطع إلغاءه، وإن كانت لا تتوقّف عن الأحلام بإنهائه عبر تطهير عرقي جديد ضد الشعب الفلسطيني.

نسفت هذه العمليات الست ما بقي من آفاق لقيام دولة فلسطينية مستقلّة، إذ استخدمت لقتل ما سمي “حلّ الدولتين”، على مرأى ومسمع من مجتمع دولي منحاز لإسرائيل، يواصل الحديث عن “حلّ الدولتين” من دون ممارسة أي ضغط فعلي لوقف الاستيطان الصهيوني الذي يدمّر ذلك الحل.

هل كان اتفاق أوسلو ناجحاً أم فاشلاً؟ كان فاشلاً ومُحبطاً للجانب الفلسطيني، ونجاحاً عبقرياً للحركة الصهيونية، لأنه سمح لها بمواصلة الاحتلال وتكريس منظومة الأبارتهايد بلا تكاليف، بل بأرباح، جديدها أخيرا التطبيع المشين مع المحيط العربي.

ولا يستطيع أحد إنكار أن أصواتاً فلسطينية عاقلة، ووطنية حكيمة، وقوى فلسطينية، حذّرت من ذلك الاتفاق عند توقيعه، وحذرت من مواصلة السير فيه، ومن أبرزها أصوات حيدر عبد الشافي وإدوارد سعيد وكثيرين آخرين. كما لا يستطيع أحد إنكار أن الغالبية الساحقة من أبناء الشعب الفلسطيني وبناته يعارضون اليوم ليس فقط اتفاق أوسلو، بل ونهج أوسلو المتواصل، بمن فيهم بعض من أُخذوا بأوهام السلام المنتظر، ثم استيقظوا على آلام الواقع المرير. وأول معارضي ذلك النهج جيل الشباب الفلسطيني الذي ولد بعد توقيع الاتفاق، ويتصدّر اليوم المقاومة الفلسطينية الباسلة لظلم الاحتلال ووحشية التمييز العنصري.

لا نستطيع اليوم إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء وإلغاء خطيئة أوسلو، وإنْ نتمنّى هذا، ولكننا نستطيع أن نطالب بالتحلّل منها، ووقف النهج الذي أدّى إلى تلك الخطيئة، واستبداله باستراتيجية وطنية فلسطينية كفاحية مقاومة، تعيد توحيد طاقات الشعب الفلسطيني ومكوّناته، وتعيد صياغة برنامجه الوطني ورؤيته لتشمل ليس فقط إنهاء الاحتلال وعودة جميع اللاجئين الفلسطينيين الذين هُمّشت قضيتهم، بل وإسقاط كل منظومة الأبارتهايد العنصرية ومجمل المشروع الاستعماري الاستيطاني (الكولونيالي) في كامل فلسطين التاريخية، والتراجع عن كل التنازلات المجّانية التي قدّمت للحركة الصهيونية مقابل لا شيء، سوى إشباع مصالح أقلية صغيرة على حساب شعبها وتلبية احتياجات بيروقراطية لمؤسّساتٍ أصبحت في حالة غربة عنه، وتوجيه رسالة واحدة واضحة إلى العالم بأسره أن الفلسطينيين لن يقبلوا ذلّ الاستعباد للاحتلال ونظام التمييز العنصري، وأن البديل الوحيد لواقع دولة الأبارتهايد الواحدة هو الدولة الديمقراطية الواحدة التي يحقق فيها شعب فلسطين حقه في الحرّية الكاملة والكرامة وتقرير المصير.

مقالات ذات صلة